هذا الجدال الإسرائيلي بشأن الحدود البحرية مع لبنان؟
أصداء اتفاق لبنان وإسرائيل على اتفاق ترسيم الحدود البحرية بينهما، بوساطة أميركية، مستمرّة في إسرائيل، فمنذ أعلن عن التوصل إليه، انقسم المجتمع الإسرائيلي والنخب السياسية بشأن ما إذا كان في صالح إسرائيل أم ضدها... وقد لعب الظرف السياسي وقرب الانتخابات دوراً في تأجيج الاختلاف بين مؤيدٍ للاتفاق ومعارضٍ له؛ وهذا معناه أنّ أكثر السجال الدائر بين مؤيدي الاتفاق أو معارضيه يدخل في باب المناكفة السياسية، ومدى إسهام هذا السجال في نيل أصوات الناخبين للفوز في انتخابات الأول من نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، وليس حقيقة إن كان الاتفاق يخدم إسرائيل أم يضرّها. وهنا يصبح الوثوق في ما يصدر من آراء إسرائيلية في الموضوع أمراً صعباً، حتى ولو كانت صادرة عن مراكز الأبحاث في ظل التوجهات الأيديولوجية التي تحرّك الجميع.
تشكّك المعارضة، بجميع أحزابها، في أنّ الاتفاق يخدم مصالح إسرائيل، وتتفق على أنّ الحكومة الحالية فرّطت في الثروات الإسرائيلية، وخضعت لإملاءات حزب الله. يقول الصحافي في صحيفة سروجيم، الناطقة باسم الصهيونية الدينية، بنزي روبن، إنّ يئير لبيد منذ تولى رئاسة الحكومة في مطلع يوليو/ تموز الماضي أثبت أنّ أفعاله مخالفة تماماً لأقواله، واتفاق ترسيم الحدود البحرية مع لبنان جاء ليؤكّد هذه الحقيقة، فيما موقعه رئيساً مؤقتاً لحكومة تسيير أعمال كان يتطلب أن يعرض الاتفاق على الكنيست بكامل هيئته، مثل ما أوصت المستشارة القانونية للحكومة، لا أن يكتفى بإقراره من حكومته فحسب، إذ قالت: "ليس هناك إلزام قانوني لتقديم الاتفاق إلى الكنيست للمصادقة عليه، لكن في ضوء اقتراب موعد الانتخابات، فإنّ من المناسب أن تتصرف الحكومة بهذه الطريقة".
كان لبيد متأكّداً أنّ الاتفاق لن يمر في الكنيست، خصوصاً أنّ شريكته في الائتلاف الحكومي أيليت شاكيد، التي تحاول أن تبالغ في توجّهها اليميني حالياً من أجل الانتخابات، ودائمة الحديث عن تشكيل حكومة يمين خالصة في حال تمكّنت من تخطّي عتبة الدخول للكنيست، انتقدت، هي الأخرى، لبيد على خطوته تلك، وعلى عدم عرض الاتفاق على الكنيست.
المعتاد أن تعرض الاتفاقات السياسية المهمة للمصادقة عليها في الكنيست بكامل هيئته
لم يكن موقف لبيد خطأ من الناحية القانونية (طبقاً لما ذكرته المستشارة القانونية للحكومة)، لكنّ أصواتاً من خارج المعارضة تحدّثت عن أنّه، من ناحية المبدأ، كان الأحرى أن يُعرض الاتفاق على الكنيست. أثارت هذه المعضلة القانونية الباحثتان في معهد دراسات الأمن القومي في جامعة تل أبيب، أورنا مزراحي وبنينا شربيط، في تقييمهما الاتفاق، فالقانون ينصّ على أنّه تجب موافقة 80 عضواً على الأقل من أعضاء الكنيست على أيّ اتفاق يتضمّن تنازلاً عن أيّ ممتلكاتٍ للدولة، وأنّ المعتاد أن تعرض الاتفاقات السياسية المهمة للمصادقة عليها في الكنيست بكامل هيئته، لكنّ الاختلاف هنا هو إن كان الاتفاق يرقى إلى مستوى "اتفاق سياسي مهم" أم لا. وتقرّ الباحثتان بأنّ الوضع الانتقالي الحالي للحكومة يقيّد حريتها لاتخاذ خطوات سياسية بهذا الحجم.
حاول وزير الدفاع، بني غانتس، تبرير سبب إقرار الاتفاق في هذا الوقت، بأنّ الاتفاق كان فرصة كبيرة، وأنّ الحكومة كانت مضطرّة لأخذ هذه الخطوة، رغم أنّها لم تكن ترغب في فعل ذلك قبل الانتخابات، وأنّ لما فعلته إسرائيل مكاسب اقتصادية كبيرة. وقد حمل كلام غانتس أيضاً ما يؤكّد أنّ بعض أسباب موافقة إسرائيل على الاتفاق كان مرتبطاً باستقرار الجبهة الشمالية وتجنّب التصعيد، فالاتفاق طبقاً لغانتس "يساعد في تدعيم الاستقرار في المنطقة كلها". لم يفت غانتس، بالطبع، أن يوجّه نقده اللاذع لزعيم المعارضة بنيامين نتنياهو، الذي لا يتصرّف بمسؤولية (حسب تعبير غانتس)، وأنّ الانتقادات التي يوجهها نتنياهو للحكومة بشأن الاتفاق سياسية وليست موضوعية، وأنّه كان عليه أن يحرص على أن يحظى الاتفاق بإجماع سياسي، مثل ما فعل هو (غانتس) من قبل، حين وافق على اتفاق أبراهام. ولم تكن هذه المقارنة في محلها، وتلقى عليها نقداً من متابعيه، خصوصاً أنّ مصلحة إسرائيل في اتفاق أبراهام كانت واضحة للجميع، بعكس هذا الاتفاق الذي خشيت الحكومة أن تعرضه على الكنيست الذي تمثل قواه المختلفة كلّ الإسرائيليين.
في السياق نفسه، كتب رئيس الحكومة، لبيد، في وسائل التواصل أنّ الاتفاق مع لبنان يجنّب إسرائيل المواجهة العسكرية مع حزب الله، الذي لا تخشاه إسرائيل، خصوصاً أنّ جيشها أقوى وقادر على توجيه ضرباتٍ موجعة للحزب، لكن إذا كان بإمكان الحكومة منع الحرب فهذا أفضل، وتحدّث لبيد عن أنّ منتقدي الاتفاق ينطقون عن جهلٍ بما تضمّنه الاتفاق، ولم يكلفوا أنفسهم قراءة بنوده، وأنّ انتقاداتهم كلها لأغراض سياسية مبنية على الادّعاءات الكاذبة المنفصلة تماماً عن الواقع.
موافقة القيادة اللبنانية على الاتفاق أثبتت، طبقاً لوجهة النظر الإسرائيلية، أنّ حزب الله ليس المتفرّد بإدارة الأمور هناك
خلص تقييم مزراحي وشربيط إلى أنّ الاتفاق يخدم مصالح إسرائيل اقتصادياً وأمنياً وسياسياً واستراتيجياً، إلى جانب أنّه يحقّق مصالح لبنان في الوقت نفسه، خصوصاً على المستوى الاقتصادي. علاوة على ذلك، سيؤدي التنقيب عن الغاز من الجانب اللبناني إلى توفير الهدوء في منطقة الحدود المائية على الأقل، ويقلّل حاجة إسرائيل لتأمين حقل كاريش.
وركز التقييم على ثلاثة محاور سياسية للاتفاق؛ أولها محور العلاقات الإسرائيلية اللبنانية؛ وكيف أنّ الاتفاق بين البلدين اعتراف لبناني بوجود إسرائيل، وعلى الرغم من أنّ لبنان، بسبب موقف حزب الله، هو من طلب أن تكون المفاوضات غير مباشرة من خلال الأميركيين لتجنب أيّ خطوات تطبيعية، فإنّ الاتفاق يظهر تغيراً جوهرياً في العلاقات بين الجانبين، علاوة على أنّه إسقاط لما يزعمه حزب الله أنّ إسرائيل كيان غير شرعي لن يعترف به الحزب، وهذا سيؤثر في تغير الصورة الذهنية التي يكوّنها اللبنانيون عن إسرائيل في المستقبل؛ والتي سينظر إليها على أنّها مهتمة باستقرار لبنان.
يخص المحور الثاني مكانة حزب الله في لبنان ونفوذه؛ فموافقة القيادة اللبنانية على الاتفاق أثبتت، طبقاً لوجهة النظر الإسرائيلية، أنّ حزب الله ليس المتفرّد بإدارة الأمور هناك، فقد تضمّن الاتفاق عناصر تسبب صعوبات استراتيجية للحزب، كان يريد أن يتجنّبها، غير أنّ الوضع الاقتصادي الكارثي هناك، وتصاعد النقد الداخلي تجاهه، أجبراه على التنازل، والاكتفاء بمزاعمه أنّه لولا تهديداته ما كان لهذا الاتفاق أن يتم.
يحقق الاتفاق، حسب أغلب أعضاء الحكومة الإسرائيلية، مصالح إسرائيل، وهو اتفاقٌ كان لا بد منه
يتعلق المحور الثالث بإيران؛ إذ يعد الاتفاق خسارة جديدة لاستراتيجيتها الهادفة إلى عزل لبنان عن العالم وضمّه للمحور الشيعي، فقبول لبنان الاتفاق يوثق علاقته بالغرب، خصوصاً الولايات المتحدة وفرنسا، وهو ما يتعارض مع رؤية إيران وذراعها في لبنان.
يحقق الاتفاق، إذاً، حسب أغلب أعضاء الحكومة الإسرائيلية مصالح إسرائيل، وهو اتفاقٌ كان لا بد منه، رغم صعوبة التوقيت قبل الانتخابات، ومن يشكّك في جدواه وضرورته الاستراتيجية جاهل ببنودِه، أو يسعى خلف مصالحه السياسية الضيقة. أما المعارضة فإنّها على النقيض تماماً، تلقي بتهم الضعف والتفريط، والتحرّك بأيدٍ مرتعشة أمام التهديدات التي تواجهها إسرائيل. أما الباحثون فيرون أنّ الاتفاق، وإن كان يحقق المصالح الإسرائيلية على المستويات الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، فإنّ توقيته وطريقة إقراره لم يكونا مناسبيْن.
وهكذا يبدو المشهد الإسرائيلي قبل أسبوعين من الانتخابات ضبابياً، تصاحبه استطلاعات رأي متذبذبة، ولا يُعرف كيف ستكون النتيجة، أو من سيشكّل الحكومة المقبلة. لكن، في كلّ الحالات، وأيّاً كانت النتيجة، يثبت ما يحدُث في إسرائيل، منذ عدة سنوات، أنّ مشكلات النظام السياسي هناك لا ينتظر أن تجد لها علاجاً في مقبل الأعوام.