هذه المرّة الصورة السايغونية معكوسة
أُعلن في 23 يناير/ كانون الثاني 1973 عن التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار الذي دخل حيّز التنفيذ يوم 28 منه، ويتضمّن توقف جميع أنواع العداء، وانسحاب القوات الأميركية من جنوب فيتنام خلال الشهرين التاليين للتوقيع.
هي حرب فيتنام، والمعروفة أيضًا باسم الحرب "الهندوصينية الثانية"، وفي فيتنام يطلق عليها حرب "المقاومة ضد أميركا"، وهي نزاع وقع في فيتنام ولاوس وكمبوديا ابتداءً من 1 نوفمبر/ تشرين الثاني 1955، حتى سقوط مدينة سايغون في 1975. وكان طرفا الحرب الرسمية، فيتنام الشمالية وفيتنام الجنوبية، حيث تلقت الشمالية الدعم من الصين والاتحاد السوفييتي، بينما تلقت الجنوبية الدعم من الولايات المتحدة.
فيتنام جمهورية اشتراكية في جنوب شرقي آسيا عل خليج تونكين وبحر الصين عاصمتها هانوي، تقع في أقصى شرق شبه جزيرة الهند الصينية، وتحدّها من الشمال الصين ومن الشرق خليج تونكين، ومن الغرب لاوس وتايلاند وكمبوديا. يكرر التاريخ بنفسه، تحديدًا على أرض فيتنام، لكن هذه المرّة بطريقة معكوسة؛ إذ تمثل الصورة السايغونية، تلك المشهدية التي عاشتها المدينة في الماضي، فهي تمثل صورة لا تزال حاضرة، وهي "هروب" القوات الأميركية والمتعاونين معها من فيتناميين، وهم يفرّون منسحبين بعد حرب عبثية على أرض فيتنام دامت سنوات طوالا، وانتهت، بحسب المراقبين، بهزيمة المشروع الأميركي الذي دعم فيتنام الجنوبية، أمام انتصار فيتنام الشيوعية.
أوردت وكالة الأنباء الفرنسية أن حاملة طائرات أميركية وصلت، الأحد 2 يوليو/ تموز الجاري، إلى مدينة دانانغ الفيتنامية، وهذا عقب أسابيع من احتجاج هانوي على إبحار سفن صينية في مياهها. وتطالب بكين بالجزء الأكبر من الممرّ المائي الغني بالموارد رغم مطالبات موازنة من دول أخرى في جنوب شرق آسيا، بينها فيتنام والفيليبين وماليزيا.
تحتاج واشنطن لتمتين علاقتها مع فيتنام، حتى وإن لم تكن هانوي، حليفة واشنطن، تشكّل قوة في مجابهة روسيا، ولكنها أيضًا تقف حجر عثرة في وجه التمرّد والتوسّع الصينيين
في إطار المنطق السياسي، من المفترض أن تكون القيادة في هانوي لا تزال تسدّد فواتيرها للكرملين، بسبب اهتمام الاتحاد السوفييتي، في القرن العشرين، مرّتين وبجدية بسيادة فيتنام. كما أن النظام الشيوعي الذي يحكم هانوي قريب من ناحية المعتقد من النظام الشيوعي الذي يحكم بكين.
انعكس الوضع، في ظلّ سيادة روسيا المهدّدة، إذ يتوقف الكثير على موقف هانوي لسداد الفواتير، خصوصا من الناحية الاقتصادية. لقد تحوّلت فيتنام إلى ساحة مواجهة بين الولايات المتحدة والصين، ومع روسيا تقف بعيدًا عن تناطح العملاقين، ولكن إلى حين.
حسب مراقبين، تكتسي العلاقات القوية بين الولايات المتحدة وفيتنام أهمية خاصة بالنسبة لواشنطن إذا كانت تريد المحافظة على قوتها المهيمنة في المنطقة. تقاطعت العلاقات المستجدّة بينهما، في حين أخذت العلاقة الفيتنامية الصينية مسار التصعيد المتّجه نحو اشتعال حرب في المنطقة، مع وصول "يو إس إس رونالد ريغان" إلى فيتنام، بالتزامن مع احتفال أميركا وفيتنام بمرور 10 سنوات على "الشراكة الشاملة" بينهما، في ظل تعزيز العلاقات التجارية بينهما، وتقاربهما على خلفية المخاوف حيال ازدياد نفوذ الصين في المنطقة.
ينوي الأميركي ممارسة الضغط على القيادة الفيتنامية، فلدى واشنطن أوراق كثيرة رابحة، في مقدمتها تحجيم الاقتصاد الروسي عبر التأثير على حركة التجارة، ففي حين أن التجارة الفيتنامية مع روسيا تبلغ سبعة مليارات دولار في السنة، فهي مع أميركا في حدود 93 مليار دولار، وهذه فجوة ضخمة تسمح لواشنطن بإملاء إرادتها ولو بشكلٍ غير مباشر. الفائض لمصلحة فيتنام، الأمر الذي أصبح جزءًا من سياسة أميركية متعمَدة. لذلك لن تتخلى هانوي بين عشية وضحاها عن السوق الأميركية.
يبدو أن التقارب إلى درجة بناء حلف بين الولايات المتحدة وفيتنام ليس عابراً ولا تقاطعياً
في المقابل، تحتاج واشنطن لتمتين علاقتها مع فيتنام، حتى وإن لم تكن هانوي، حليفة واشنطن، تشكّل قوة في مجابهة روسيا، ولكنها أيضًا تقف حجر عثرة في وجه التمرّد والتوسّع الصينيين. على الرغم من أن النظامين في بكين وهانوي يتشابهان من حيث أنهما شيوعيان، لكنّهما يحملان تناقضا كثيرا. ومع ذلك، لا يزال لدى القيادة الفيتنامية ما يكفي من الحسّ السليم للحيلولة دون التصعيد مع بكين، فالذاكرة الفيتنامية ربما ما زالت تحمل في طياتها تلك الصورة السايغونية التي تصوّر انسحاب الأميركيين تاركين فيتنام مجرد ركام.
لقد شكّل ميناء دانانغ الفيتنامي عنوانًا لبروز حلف جديد في المنطقة، تمثل من خلال وصول حاملة الطائرات الأميركية، إضافة إلى وصول سفن تابعة للبحرية الهندية إليه في يونيو/ حزيران الماضي، إضافة إلى وجود أكثر من سفينة حربية يابانية في مدينة كان ران، جنوب شرقي فيتنام، في الأسبوع الأول من يوليو/ تموز الحالي. أفادت الناطقة باسم وزارة الخارجية الفيتنامية فام تهو هانغ في وقت سابق بأن رسوّ المراكب الأجنبية في موانئ البلاد يعد تعبيرًا وديًا من أجل السلام والاستقرار والتعاون والتنمية في المنطقة والعالم. على ما يبدو إن التقارب إلى درجة بناء حلف بين الولايات المتحدة وفيتنام ليس عابرًا ولا تقاطعيًا، بل تحمل العلاقة الثنائية القوية بينهما أهميةً كبيرةً بالنسبة إلى البلدين على حدّ سواء.
تتموضع الصورة السايغونية اليوم بين حلف أميركي مستجدّ مبني على ذاكرة فيها انسحاب أليم للفيتناميين على متن تلك الطائرة على سطح أحد الأبنية وتتساقط منها الجثث، رغم التصدير بمليارات الدولارات إلى أميركا، وأطماع صينية توسّعية، لا تعترف إلا بمبدأ فرض القوة وبسط النفوذ على بحر الصين الجنوبي، حارمة هانوي ودولا أخرى من موانئها.