هذه الوقائع ... ماذا حدث للمصريين؟
تحمل حكاية مدير المدرسة، المصري، الذي توفي بهبوط حاد فى الدورة الدموية، وهو يزاول عملا إضافيا، في أثناء إجازة العيد، دلالات عدة، منها ما يتعلق بتفاصيل بؤس الواقع الاجتماعي، وما تتركه مظاهره من إحباطات، سواء لدى شرائح طبقية مفقرة، انضم إليها مهنيون كثيرون، أو آخرون كان لديهم أمل فى التغيير، مع الواقعة المؤسفة، وغيرها من مشاهد تدلّ على تنوع صنوف الأزمات وتجلياتها. ويظهر اتجاه يحاول إنكار الواقع، أو التغطية عليه، وإن كانت عمليات ممارسة الإنكار، كحيلة وتصرّف نفسي، مريحة مؤقتا لصاحبها، فان نفي حقائق الواقع الاجتماعي غير ممكن عمليا.
اتصفت الاستجابات مع موت الرجل بالتعاطف. وباتت القصة مفتتحا عن الحقائق الاجتماعية الملموسة، الشقاء والبؤس، معدّلات العوز والانتحار، الهجرة، ومعها الشعور بالإخفاقات فى مواجهة الدعاية، ونقاشات تسترجع وتختبر الآمال بشأن التنمية وتحسّن سبل الحياة. واكتسبت القصة اهتمام الرأي العام، ونُشر عنها الكثير فى وسائل اعلام عربية. كان اللافت ما يشبه مراجعة حول أوضاع المجتمع، خصوصا أن الواقعة تزامنت مع حملة الدعاية عن إنجازات عشر سنوات بعد "30 يونيو"، وثانيا إجازة عيد الأضحى، الذي ينتظر فيه مساحات من الفرح. بينما استدعت الواقعة شعورا بالحزن، ليس فقط لضيقٍ فى سبل العيش، ولكن، أيضا، لأن مساحات الأمل تبدّدت، ولم يوجد الصبر، وتحمل كسر الظهور التى انحنت، خوفا أو شقاء فى مجالات العمل، لم تحسّن الوضع أو تستدع السلامة.
ذكّرت واقعة موت المدرّس الخمسيني، الذي قضى نصف عمره معلما، بحجم التناقضات: الحزن في مجال الفرح، العمل في إجازة العيد، هذا إلى جانب تناقضات طبقية يعاني منها الناس. وتناقض آخر في الواقعة، بين المركز الاجتماعي، لمدير مدرسه يخلع بدلته ليرتدي زي الصنايعي ليمارس عملا إضافيا في مجال البناء، يلبّي مسؤوليته تجاه أبنائه الخمسة، في رحلة كفاحه من أجل تعليمهم، والتزامه بالنزاهة. جذور القهر ممتدّة هنا، الرجل بدأه صغيرا، قبل 40 عاما، وزاوله حتى رحيله. وكانت القاعدة مؤكّدة، يبقى الفقراء فقراء تحت أنظمة الاستغلال التي تتهم الناس بالتكاسل، وتعجز عن إنجاز تنمية حقيقية.
صحيح أن الواقع الاجتماعي لا يتغيّر ويتبدل سريعاً، وأن هناك مشكلات قديمة متراكمة، لكن عشر سنوات في مصر مضت تركت آثارا كثيرة، وعمّقت الأزمة
يتعاطف الناس، لأن قصة الرجل تمسّهم، ويستشعر الجميع، أن أحلاما كبرى حول قيم العلم والمعلمين، وتغيير حال الناس والعدالة، مفتقدة. لذا كان التعاطف مستحقّا، والحزن مؤكّدا، يتجاوز من يشاركونه الظروف نفسها. هذا بجانب عسف وتضليل، ومحاولة إنكار ما جرى. ذهبت نقابة المعلمين المعيّنة، ووسائل إعلام محلية، في محاولة إنكار الواقعة، استنطاق الأهل، ودحض الرواية، واكتفى الأهل بالقول إنهم ليسوا فى حاجة إلى المساعدة، تحسبهم من التعفّف أغنياء.
وفي المشهد فجوة بين التمثل النقابي والتعبير عن مطالب العاملين بأجر من مهنيين، خصوصا نقابة المعلّمين (يبلغ عدد المعلمين مليونا)، والتي خرجت تشكّك في الواقعة، وتعتبر أن وسائل الإعلام انساقت خلف وسائل التواصل الاجتماعي، وأن أطرافاً تمارس متاجرة بالواقعة، ذلك بدلا من الدفاع عن زميلهم أو طرح مشكلات المعلمين، وهي قائمة ولا تحتاج إلى قصص ولا وقائع مأساوية، ولا شبه توظيف فيها، لكن النقابات، كما مواقع أخرى، إما مخطوفة مقاعدها أو محاصرة، ضمن هرم سلطوي، تلتزم بالتطويع والتبعية.
يموت عاملون وهم يكدحون، أو في محاولتهم للهجرة غير الشرعية، كما مركب اليونان الغارق، الذي ضمّ من المصريين نسبة كبيرة، بجانب أصحاب جنسيات أخرى من الشرق الأوسط، لكن الإعلام المصري لم ينتبه، أو منع من التغطية، بينما كانت وسائل الإعلام عالميا تتابع، ليتكشّف أن بين المهاجرين أطفالا وقصّرا، وما زال بعض من هؤلاء يتوافد علي ليبيا، يرحل بعضهم ويحاول آخرون الهجرة، رغم قسوة المصير وحجم المخاطرة، أي جحيم يريد الناس أن ينجو منه في مصر. لا تكفي الأرقام الخام عن معدلات الفقر أو البطالة والنمو للتفسير، لكن مثل هذه الظواهر ذات دلالة مهمّة، هل يمكن أن ننسى موت أطفال في طريقهم للعمل في المزارع، بأقل من دولارين أحيانا؟ هؤلاء أيضا جزء من الواقع الاجتماعي، بما فيه من بؤس واغتراب وقسوة، يزداد مع تفاوتٍ أيضا بين المدن والريف وأشكال عدة للتفاوت.
يزداد القمع، سياسة التكتم، إخفاء الحقائق، من أجل إسكات الجميع، يغيب الانضباط ويصبح الواقع فوضوياً، وغير قابل للتصديق
بجانب ظواهر أيضا من العنف والجريمة ضد النفس أو الآخرين، هناك صورة لوضع اجتماعي مقلق، يضاف إليه القمع، سجّل الموت بالهبوط الحاد في الدورة الدموية في السجون يتكرّر، رصد خلال النصف الأول من العام الحالي (2023) موت 17 سجينا. ليس وحسب، القتل خارج القانون مؤلما، الموت أيضا وأنت تكافح من أجل العيش أو الصمود حيا وأداء دور اجتماعي أمر قاس، لكن بعضهم يرونه اعتياديا.
يحدُث أن تُنتهك كرامة عمال فقراء من أجهزة الأمن في إطار الاشتباه وخلال تنقلهم بين المحافظات في شكل هجرة يومية أحيانا. يتكرّر ذلك بحكم ارتباط القهر وارتفاع منسوبه كلما كنت فقيرا، لكن واقعة أخيرة، مقتل صيدلانية دهسا في مجمع سكني، على يد ضابط، يظهر قدرا من عدم الضبط خارجا عن المعقول. استطاع طبيب وصيدلانية العمل في بلد عربي، اشتريا بيتا في تجمّع سكني راق، لكنهما لم ينجوا من عسف سلطوي الطابع. ماتت الصيدلانية دهسا بسيارة ضابط، لخلاف كان ممكنا أن يمر بسهولة، لكنه انتهى بواقعة غاية في القسوة والقهر، وتعبّر عن استهتار بالغ بأرواح الناس. لا ينفصل ذلك عن سلطةٍ لا تضع نفسها موضع المحاسبة عما تنفذه من سياساتٍ اقتصادية واجتماعية تشكّل الواقع. ومع هذا النمط من الحكم، يزداد القمع، سياسة التكتم، إخفاء الحقائق، من أجل إسكات الجميع، يغيب الانضباط ويصبح الواقع فوضويا، وغير قابل للتصديق.
واقع اجتماعي تشكّله السياسات الاقتصادية والنمط السياسي، وأدوات الحكم، التي تشلّ العلم النقابي، والقدرة على التفاوض
نحن أمام واقع اجتماعي تشكّله السياسات الاقتصادية والنمط السياسي، وأدوات الحكم، التي تشلّ العلم النقابي، والقدرة على التفاوض، فتُهدر حتى إمكانات الإصلاح، نظام يعتمد على القهر ويمارس ذلك سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، يستعين بمكوّناته وأفراده، وكلهم في حالة تكامل، بداية من قيادات نقابية صفراء إلى وسائل إعلام، وليس نهاية بأجهزة الضبط، والتي يخرُج أفرادها حتى عن مهامها، فيتصوّرون أنهم اصحاب سلطة مطلقة.
صحيح أن الواقع الاجتماعي لا يتغيّر ويتبدل سريعا، وأن هناك مشكلات قديمة متراكمة، لكن عشر سنوات مضت تركت آثارا كثيرة، وعمّقت الأزمة، وتستحقّ أن نسأل: ماذا حدث للمصريين خلالها؟