هل إسرائيل قوة عظمى؟
إلى أين تريد قوات الاحتلال الإسرائيلي أن تصل في نهجها سياسة الأرض المحروقة، وتنفيذها أبشع وأسوأ حرب إبادة ضد سكان قطاع غزّة، منذ أكثر من خمسة أشهر؟ هل يمكن عدّ كل هذا العناد والتعنّت والغرور والحقد والعنصرية والتطرّف والهمجية مبرّرات مقنعة لقتل آلاف الأبرياء بوحشية، وخصوصاً الأطفال والنساء والشيوخ، وتخريب مدنٍ بأكملها وتدميرها، وتهجير سكانها وتحويلهم لاجئين منكوبين ومحاصرتهم وتجويعهم؟ أكثر من ذلك، لم يعد الكيان الصهيوني يعير أدنى اهتمام للقانون الدولي الإنساني وقرارات المنظمات الأممية، ومنها قرار محكمة العدل الدولية. ويدرك العالم جيداً أن قوات الاحتلال، بقيادة حكومة متطرّفة، ارتكبت أسوأ جريمة حرب، وأفظع مجزرة ومحرقة في تاريخ الحروب الحديثة. هنا، على قادة العالم، وبخاصة الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، أن يستحضروا الإنساني فيهم، وأن يتذكّروا أن الفلسطيني بشر مثلهم ومثل حليفهم، الذي يوصف خطأً وبفجاجة بأنه دولة ديمقراطية، أما إذا كانت حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي فعلاً ديمقراطياً فتلك حكاية أخرى.
رغم كل النداءات والمناشدات والتحذيرات الصادرة حتى عن أقرب الحلفاء، لم تكترث الحكومة اليمينية المتطرّفة في تل أبيب بكل هذا السيل من المناشدات، ولم تُصدر أي إشارة تدلّ على إمكانية تعديل استراتيجيتها العسكرية، خصوصاً الاستعداد لاجتياح رفح، فكل المؤشّرات تسير في اتجاه تكريس السيناريو الأسوأ، فالجيش الإسرائيلي شرع في التحضير النفسي والمعنوي واللوجستي لشنّ عملية عسكرية كبيرة ومصيرية بمنطق نتنياهو، ويبقى تجسيدها على الأرض رهناً بمآلات المفاوضات مع حركة حماس في الدوحة والقاهرة. وتتزامن هذه الاستعدادات مع عقد وزير الأمن الإسرائيلي يوآف غالانت اجتماعات لتنسيق العملية العسكرية في رفح في واشنطن. كذلك كشفت وسائل إعلام إسرائيلية أن نتنياهو، في إطار التعامل مع المدنيين المقيمين في رفح، أمر بشراء حوالى 40 ألف خيمة من الصين، وستُنقَل إلى إسرائيل ثم إلى قطاع غزّة، وستُحدَّد أماكن تُنصب فيها لتستقبل آلاف اللاجئين، علماً أن الإدارة الأميركية عبّرت عن مخاوفها وتوجّسها من عملية برّية كبيرة واعتبرتها خطأً، وهذا ما لخّصه المتحدث باسم مجلس الأمن القومي جون كيربي، عندما قال: "لا يمكننا ببساطة أن نؤيد هجوماً برّياً كبيراً في رفح لا يتضمّن خطة قابلة للتطبيق يمكن التحقق منها"، وذلك "لضمان أمن مليون ونصف مليون من سكان غزّة، الذين وجدوا ملجأً هناك بسبب العمليات التي جرت في الشمال وفي خانيونس، وقبل ذلك في مدينة غزّة". لكن المسؤول الأميركي صرّح أيضاً بأن هناك طرقاً أخرى لملاحقة "حماس" في رفح، وأن لإسرائيل، مرّة أخرى، كل الحق في القيام بذلك، لكن بطريقة لا تعرّض هؤلاء الأشخاص اللاجئين للخطر.
رغم كل المناشدات والتحذيرات الصادرة حتى عن أقرب الحلفاء، فإن الحكومة الإسرائيلية المتطرفة لم تكترث ولم تُصدر أي إشارة إلى إمكانية تعديل استراتيجيتها العسكرية
وفي سياق فضح الممارسات العدوانية الفاشية لجيش الاحتلال، كان لافتاً أن التقرير الذي رفعته مقرّرة الأمم المتحدة الخاصة بالأراضي الفلسطينية فرانشيسكا ألبانيز إلى مجلس حقوق الإنسان بجنيف، أثار حنقاً وغضباً وسط الكيان الصهيوني، فقد أكّدت الخبيرة الأممية أن هناك أسباباً منطقية للقول إن إسرائيل ارتكبت عديداً من أعمال الإبادة. وأضافت أن الطبيعة والحجم الساحقين للهجوم الإسرائيلي على قطاع غزّة وظروف الحياة المدمّرة التي سبّبها يكشفان نية قوات الاحتلال تدمير الفلسطينيين. وقد عرّض هذا الموقف الخبيرة الأممية للتهديد والضغوط، علماً أن ممثلي إسرائيل في الأمم المتحدة عبّروا عن رفضهم الكامل للتقرير، واعتبروا في بيان متشنج ومنفعل أن ذلك جزءٌ من حملة تهدف إلى تقويض "الدولة اليهودية". كذلك قال مسؤول أميركي إنه ليس لدى بلاده أي أسباب للاعتقاد بأن إسرائيل ارتكبت أعمال إبادة في قطاع غزّة. وقبل ذلك اتهم وزير خارجية الكيان الصهيوني، يسرائيل كاتس، الأمم المتحدة بأنها أصبحت تحت قيادة أمينها العام الحالي أنطونيو غوتيريس هيئة معادية للسامية ولإسرائيل، وأنها تحمي الإرهاب وتشجّعه. هكذا، يظهر جلياً أن أي انتقادٍ لسياسة الحكومة المتطرفة يصبح رديفاً لسلوك معادٍ لليهود. وتستغل إسرائيل، بانتهازية، ما يمكن وصفها بعقدة الذنب لدى الرأي العام الغربي تجاه المحرقة النازية التي تعرّض لها اليهود خلال الحرب العالمية الثانية، ما جلب تاريخياً دعماً عاطفياً ومالياً وعسكرياً كبيراً للدولة الصهيونية، ساهم في تقوية شرعيتها وبنياتها، بالإضافة إلى تسويق أسطورة "الديمقراطية الإسرائيلية"، بوصفها حالة استثنائية في المنطقة كلها. وتخشى الحكومة اليمينية المتطرفة أن يتضاءل رأسمالها من هذا الرصيد الثمين، في ظلّ جرائم الحرب والإبادة الجماعية والتطهير العرقي في قطاع غزّة، سيما أن الرأي العام الغربي عبّر من خلال مسيرات حاشدة وأشكال احتجاج مختلفة، عن إدانته الشديدة لحرب الإبادة التي ترتكبها قوات الاحتلال ضد سكانٍ عزّل، كما أن أجيالاً جديدة في الغرب هي في حلٍّ من عقدة المحرقة، خلافاً للأجيال السابقة.
الإدارة الأميركية شريك فعلي وأساسي في كل أطوار حرب الإبادة في قطاع غزّة ومراحلها، فهي التي تسلّح الجيش الإسرائيلي وتزوّده بالأسلحة المتطوّرة والفتاكة
كما يكشف الموقف الأميركي درجة عالية من النفاق والانفصام السياسيين، لأن الإدارة الأميركية شريك فعلي وأساسي في كل أطوار حرب الإبادة في قطاع غزّة ومراحلها، فهي التي تسلّح الجيش الإسرائيلي وتزوّده بالأسلحة المتطوّرة والفتاكة. وهذا ما ندّد به جزء كبير من الرأي العام العالمي، وعدة دول، خصوصاً أن مسؤولي الإدارة الأميركية يشاهدون على مدار الساعة ما يرتكب في قطاع غزّة من دمار وتدمير وقتل، غير أن واشنطن لم تكترث بما لحقها من عارٍ أخلاقي، حتى وإن عمدت إلى تجنّب استخدام حق النقض (فيتو) ضد قرار يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار خلال شهر رمضان، في خطوة لتقليص الخسائر الأخلاقية لواشنطن وعدم المساس بتحالفاتها في المنطقة. لكن هذا التصعيد الشكلي ضد نتنياهو، والحديث عن خسائر استراتيجية لإسرائيل بسبب موقف نتنياهو، الذي يصرّ على اجتياح رفح في مسعى للقضاء المبرم على ما بقي من بنيات عسكرية لحركة حماس واستئصالها والفتك بمقاتليها، قد يكونان مجرّد توزيع للأدوار في تنفيذ مخطّط قذر، قد يخلط الأوراق بشكل أكثر مأساوية، ويعيد القضية الفلسطينية إلى النقطة الصفر، بما في ذلك معاودة استيطان قطاع غزّة، كما يدعو إلى ذلك وزراء في الحكومة الإسرائيلية. والرئيس الأميركي جو بايدن في موقف دقيق بسبب تزايد الانتقادات من نشطاء حزبه، وتقديم مسؤولين استقالاتهم احتجاجاً على تورّط إدارته في ارتكاب فظاعاتٍ يندى لها الجبين، ما قد يشكّل ضربة قاصمة لمستقبله السياسي، خصوصاً إذا فقد أصوات الكتلة الناخبة ذات الأصول العربية والإسلامية، ما يعني تضرّر سمعة الوسيط الأميركي الذي لا يكفّ عن الحديث عن حلّ الدولتين وإقامة سلام دائم يضمن التعايش والأمن والاستقرار في منطقةٍ تنام فوق برميل من البارود. لكن ما يهمّ الولايات المتحدة، أولاً، إنقاذ إسرائيل من جموح ورعونة حكومة عنصرية متطرّفة، وتفادي إلحاق هزيمة بحليفها المفضل والمدلّل، وتجنب ما يمكن أن يربك المشروع الصهيوني ويشوّش على أجندتها التوسّعية.
لجوء نتنياهو إلى خيار التصعيد والتطرّف مُفكَّر فيه ومدروس بعناية فائقة، ويشكّل قاسماً مشتركاً مع مكونات كثيرة في معسكره السياسي
يحدث هذا بينما يستعدّ الكونغرس للتصويت على مساعدات تقدّر بمليارات الدولارات لإسرائيل. ولا بد هنا أن نستحضر ما قاله نتنياهو، سابقاً، حين زعم أن هزيمة إسرائيل هي هزيمة للولايات المتحدة وللغرب عموماً. فيما هو يطالب بمزيد من الدعم، أي مضاعفة الرغبة في ارتكاب المزيد من المجازر. وما محاولة التوفيق بين تدمير "حماس"، وتفكيك قدراتها العسكرية وشلّ مقاومتها، وعدم ارتكاب مجازر ضد المدنيين، سوى خدعة مردودة لا أساس لها من الصحة، فكل همّ الولايات المتحدة هو ضمان أمن إسرائيل، ولو عبر تنصيب سلطة فلسطينية مُتَحَكَّمٌ فيها وعلى المقاس، تلبّي الشروط الأمنية للكيان الصهيوني، وتعمل تحت وصاية الإدارة الأميركية وحلفائها. وهنا يمكن القول إن خطة إسرائيل تشبه، إلى حد كبير، ما قامت به الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية، عندما دشّنت مسارها الإمبريالي بضرب اليابان بقنبلتين ذرّيتين في هيروشيما وناغازاكي، وباللجوء إلى مشروع مارشال ورقة للتحكّم لإعادة إعمار أوروبا. ولتحقيق هذه الحزمة من الأهداف، لا تتردّد واشنطن في تبرير وتزكية كل مغامرات إسرائيل العسكرية، بوصفها رأس حربة لمخطّط أميركا في منطقة الشرق الأوسط التي تتمتع بثروات هائلة وبموقع استراتيجي. وكما أبادت أميركا الهنود الحمر السكّان الأصليين، فإن إسرائيل كمشروع استيطاني عدواني توسّعي يشمل كل فلسطين، في إطار تحقيق حلم إسرائيل الكبرى من الفرات إلى النيل، تطبّق المخطّط نفسه من خلال إبادة السكان الأصليين في فلسطين.
لجوء نتنياهو إلى خيار التصعيد والتطرّف مُفكَّر فيه ومدروس بعناية فائقة، ويشكّل قاسماً مشتركاً مع مكونات كثيرة في معسكره السياسي، الذي يرى أن "الدولة اليهودية" جعلت من نفسها دولة لا غنى عنها لحليفتها الأميركية، خصوصاً بفضل رأسمالها البشري والتكنولوجي، ويبدو أن اعتبار إسرائيل إحدى الركائز التي تقوم عليها استراتيجية واشنطن الإقليمية هو أحد العوامل الأساسية التي تشجّع الكيان الصهيوني على تصفية القضية الفلسطينية، والسعي، بكل الوسائل، لاحتلال حتى المناطق التي توجد شكلياً تحت مراقبة السلطة الفلسطينية.