هل إسرائيل وحدها حقّاً؟
أثار الغلاف الرئيسي لمجلة الإيكونومست الأسبوعية البريطانية (الأسبوع الماضي)، الذي جاء بعنوان "إسرائيل وحدَها" جدلاً واسعاً وكبيراً في أوساط إسرائيلية وعالمية، وترافق العنوان مع صورة معبّرة لعلم الكيان الصهيوني وسط الغبار في قطاع غزّة. وعلى الطرف الآخر، كان هنالك احتفاء لدى ناشطين وسياسيين عرب كثيرين بهذا الغلاف، بوصفه إقراراً بهزيمة إسرائيل وعزلتها الدولية وبثبات المقاومة ونجاحها سياسياً.
يدفعان، العنوان وردود الفعل العربية والغربية، إلى التوقف فعلاً، خاصة في ضوْء ما يحدث من كارثة إنسانية بربرية همجية وحشية في غزّة، إلى طرح جملة كبيرة من الأسئلة والتساؤلات التي تتطلب منّا، في المجتمعات والنخب السياسية والمثقفة العربية، أن نفكّر فيها بعقل هادئ وموزون، لأنّ الإجابات عليها، وقد تكون جدلية وخلافية، تُبنى عليها أمورٌ عديدة مهمة في تعريف رؤيتنا إلى أنفسنا والعالم، وفي تأصيل المنظور الثقافي الأكثر نجاعة في رؤية ما يحدُث لنا ومن حولنا، وفي تقييم (وتوزين) الأحداث التاريخية المفصلية الحالية، التي يمثّل مشهد غزّة منعطفاً كبيراً فيها.
السؤال البديهي، بداية، في مساءلة عنوان "الإيكونومست": هل فعلاً إسرائيل وحيدة اليوم؟! المقال برّر ذلك بنقاط عديدة، منها التحوّلات في المواقف الدولية والغربية والأميركية تجاه الحرب الإسرائيلية على غزّة، وفي الموقف من اليمين الإسرائيلي المتشدّد الذي يحكم غزّة، وفي عدم مشاركة الغربيين حكومة إسرائيل رؤيتهم إلى مستقبل قطاع غزّة، ولكيفية إنهاء العملية العسكرية (التعريف الحقيقي هي حرب الإبادة) وما هي الأهداف السياسية التي من الممكن تحقيقها؟!
ربما تكون تلك المعطيات صحيحةً نسبياً، لكنها مؤقتة ومحدودة. وفي أفضل الحالات تعكس خلافاتٍ في وجهات النظر بين الحكومات الغربية، خصوصاً الإدارة الأميركية وحكومة نتنياهو على أمور محدّدة، لكنها (المعطيات المذكورة) لا تصل إلى القضايا الاستراتيجية والدعم الكبير العاطفي والعسكري والاقتصادي والدبلوماسي الذي تحظى به إسرائيل من شركائها وحلفائها وأصدقائها الأوروبيين، ولا دلالة على ذلك أكثر من حجم التأثير والنفوذ الصهيوني في هذه الدوائر إلى درجةٍ لا يستطيع أحدّ أن ينتقد إسرائيل بصورة معلنة من الدول الحليفة، حتى في أبشع الجرائم الإنسانية الموثّقة والمصوّرة، وحتى في تحفّظ الإدارة الأميركية على اجتياح رفح فهو مرتبط ليس جذرياً، بل تكتيكياً مرتبطاً بوجود "خطّة واضحة"، وبسيناريو إجلاء السكان من المدينة، التي أصبحت تضمّ أغلبية سكان القطاع في أكثر نقطة اكتظاظ منكوبة في العالم!
صحيحٌ أنّ هنالك تحوّلات مهمّة في الرأي العام الغربي، خاصة لدى الجيل الجديد في أميركا وأوروبا، لكن ما حجم أهمية ذلك استراتيجياً، وفي موازين القوى والعلاقات الدولية، وكم مدّته؟! إذا كان رهاننا على عزلة إسرائيل أو الرأي العام الأميركي والغربي فهو رهانٌ مثاليٌّ غير واقعي يستبطن عدم إدراك أبسط محدّدات العلاقات بين الدول، وهي القوى والمصالح. وحتى في الجوانب الدينية، فإن هناك سؤالا رئيسيا من رحم الحرب على غزّة، فيما إذا كان الموقف الأميركي مرتبطاً بحسابات استراتيجية، أم حسابات النفوذ الصهيوني المتغلغل في لعبة النفوذ هناك، أم في حسابات الإنجيلية الأصولية التي ترى في إسرائيل مسألة دينية رمزية، كما يؤكد إيلان بابيه (المؤرّخ الإسرائيلي الجديد) مرتبطة بوعد العهد القديم؟ أم أنّ الموقف الغربي مرتبط بالإرث الثقافي للحروب الدينية والحضارية؟ أم بالصورة النمطية المعاصرة المرتبطة بالمجتمعات العربية والمسلمة والديكتاتورية والتطرّف والإرهاب؟!..
أسئلة ليس من السهل الإجابة عليها، لكنها تدفع إلى نقاشاتٍ معمّقة لما سينبني عليها من منظومةٍ قيميةٍ وسياسيةٍ واستراتيجيةٍ في رؤية علاقتنا مع العالم والغرب وللعلاقات الدولية!
على الجانب الآخر، أهم ما يمكن أن يترتّب على حرب الإبادة في غزّة والوضع الفلسطيني والمواقف العربية والإسلامية المخزية أن نكون قادرين على طرح الأسئلة والتساؤلات الصحيحة التي تقودنا إلى قراءة دقيقة واقعية معمّقة لما يحدث، بعيداً عن الأوهام والأحلام، وهي أسئلة لن تخلو من مضامين دينية وفلسفية وثقافية واستراتيجية.