هل الحرب الإسرائيلية وليدة الطوفان حقّاً؟
كشفت الحرب العدوانية التي تشنّها إسرائيل على غزّة منذ أربعة أسابيع، عن معطيات جديدة في مفهوم الصراع مع إسرائيل، أنه صراع محدود بالتعاطف الشعبي العربي غير المُلزم للأنظمة الحاكمة وقوى الأمر الواقع، وهي بالقدر الذي يمكن وصفها حرباً وحشيةً غير مسبوقة، تلزم الإنسانية جميعها بالوقوف في وجهها، والحدّ من تفاعلاتها الآنية والمستقبلية، ليس فقط داخل دائرة الصراع المحدّدة اليوم في غزّة، وأهلها، لتشمل كل الأراضي الفلسطينية وما حولها من دول عربية، فإنها، في الوقت نفسه، أماطت اللثام عما سمّي محور المقاومة، الذي بقي معللاً وجوده المسلح وأحكامه العرفية المقيدة لحريات شعوبه في هذه الدول (سورية وإيران ولبنان) بقضية فلسطين ونضاله من أجل تحرير القدس، وأن لا صوت يعلو على صوت المعركة ضد إسرائيل.
يمكن القول إن توقيت الحرب الإسرائيلية الشاملة على غزّة، والدعم الأميركي والغربي اللامحدود لها، وسرعة وصول كل مستلزمات المعركة من كل حدب وصوب إلى إسرائيل، لا يمكن أن يكون حصل مصادفة، أو أنه وليد عملية عسكرية مباغتة لحركة حماس، بغضّ النظر عن فكرة معارضتها أو تأييدها أو المراهنة على نتائجها فلسطينياً. ما يعني أن مجمل ما يحدُث في المنطقة يخضع لنظرية إعادة تشكيل الشرق الأوسط وفق مفهوم أميركي - إسرائيلي سابق على عملية طوفان الأقصى، التي وظفتها إسرائيل ذريعةً لحربٍ شرسة، تغيّر من خلالها الواقع الجغرافي والديمغرافي والسياسي تحت عنوان الدفاع عن النفس. ففي ظل وحدانية المعارك الداخلية التي خاضتها، ولا تزال تخوضها، قوى "محور المقاومة" ضد التحرّكات الشعبية المطالبة بالحرّيات وحقوق المواطنة، والحدّ من تغوّل الأجهزة الأمنية عليها، في كل من سورية وإيران أو العراق واليمن ولبنان، سواء بتدخّل إيران المباشر، أو عبر أذرعها "المليشياوية" المحمولة على حواضن طائفية، وتصاعد الغضب الشعبي اللبناني ضد مليشيا حزب الله وسلاحه المنفلت من قوانين الدولة اللبنانية، والانفلات الأمني المرافق للانهيارات الاقتصادية لهذه الدول، وسباق السرعة الذي تخوضه دولٌ كثيرةٌ في الوصول إلى عملية تطبيع مع إسرائيل، وازدحام الوجود العسكري في المنطقة، المؤيّد لصناعة خريطة محدثة لشرق أوسط جديد، تبدو الحرب كأنها جاءت في التوقيت والمكان المناسبيْن والمحدّدين إسرائيلياً، والمتوافقيْن مع ظروف المنطقة كاملة. فهذه الحرب، وإن بدَت نتائجها المباشرة في حجم الخسائر الفلسطينية الباهظة، من أرواح ودمار مدن، ومحاولة إعادة تشريد الشعب الفلسطيني من غزّة إلى مناطق مختلفة، فإنها أيضاً، بنتائجها اللاحقة والمتمدّدة، تباعاً من محور المقاومة نفسه كشفت عن:
غاب صوت سورية، دولة "الصمود والمقاومة"، عن الحدث الفلسطيني
أولاً، إخلاء إيران مسؤوليتها عن أي شراكة مع "حماس" في عمليتها "طوفان الأقصى"، على الرغم من أنها اعتادت، على الدوام، تأكيد دعمها لها، في كل تفاصيل وجودها المقاوم لإسرائيل، فيما خلا هذه العملية، تمهيداً لإخلاء مسؤوليّتها عن حجم نتائجها وهولها على الفلسطينيين، وعلى القضية الفلسطينية برمّتها، بل وعلى عكس ما تقوم به القوى المساندة لإسرائيل، والتي رفضت قرار وقف إطلاق النار تأييدا للحرب، أكّدت إيران على المطالبة به، بما يعني أنها لا تريد خوض الحرب ضد إسرائيل في "توقيت فلسطيني" على الرغم من أنه التوقيت الذي أحدث ما قال عنه الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، الأربعاء الماضي (29/10/2023) في حديثه لقناة الجزيرة: "عملية طوفان الأقصى حققت انتصاراً أولياً، تبعه انتصارٌ آخر، وهو الفشل الإسرائيلي في اجتياح غزة برّياً".
وثانياً، تخلّي حزب الله عن مهمته التي أعلن عنها مراراً وتكراراً، وهي مقاومته للاحتلال الإسرائيلي عبر وحدة الساحات، التي يتشارك بها مع "حماس"، وهو ما أكده الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، في خطابه يوم الجمعة (3/11/ 2023)، معتبراً أن مشاركته في الحرب مشروطة بأمرين: أولهما، تطوّر الأحداث في غزّة، التي تؤدّي إلى إضعاف المقاومة، ما يعني أن المقاومة التي أصيبت حاضنتها بمقتل ما يزيد عن عشرة آلاف فلسطيني، وتشريد نصف سكّان غزّة، وكل هذا الدمار الذي يحيط بها الآن ليس في عداد خسائر "حماس"، ولا تتأثر قوة "حماس" به، ما يعني أنّ تدخّل نصر الله مشروط بإعلان "حماس" ضعفها أو هزيمتها، ليكون هو منقذُها في آخر لحظة.
تُركت غزّة وحيدة، ويراها داعمو "حماس" من محور "المقاومة" قابلة للتوظيف
ثاني الأمريْن سلوك إسرائيل تجاه لبنان، أي أن حزب الله يأخذ على عاتقه مهمّة جيش لبنان، وتناقض هذه المهمة أن لبنان دولة ذات سيادة، حيث تدافع عن الدول جيوشها وليس مليشيات مسلحة، وتابعة لدول أخرى، لا يملّ شعب لبنان في معظمه من المطالبة بتسليم سلاح حزب الله وإنهاء وجوده المسلح من حياتهم. أي في المحصلة تُركت غزّة لمصيرها، وعلى الشعب الفلسطيني أن يقاوم بأجساده التي تتلقى رصاص وصواريخ إسرائيل.
ثالثاً، غاب صوت سورية، دولة "الصمود والمقاومة"، عن الحدث الفلسطيني. صحيحٌ أن إسرائيل قد تبرّر ذلك بانشغال الرئيس السوري بحربه ضد معارضيه، إلا أن للنظام السوري حسابات أخرى من هذا الصمت، الذي بدا واضحاً على المستويين، الشعبي والرسمي، وهو القول إنّ زمام الأمور لا تزال بيد النظام، من حيث القدرة على لجم الشعب حتى بمؤازرة قضيته الفلسطينية، وأنه أيضاً طرف في خارطة الشرق الأوسط الجديد حين توزيع الغنائم، وردّ الجميل.
في المحصلة، يمكن القول، بكل ألم، إن غزّة تركت وحيدة، ويراها داعمو "حماس" من محور "المقاومة" قبل غيرهم، قابلة لتوظيف معركتها في ملفاتهم على حساب الشعب الفلسطيني ومعاناته.