هل تغيّر المجتمع السوداني بعد 2019؟
استضافت الخرطوم، في الأسبوع الماضي، مغنيا عربياً أقام حفلًا بمناسبة عيد الحب. وتعليقاً على الحدث، نشر الباحث في شؤون المنطقة، مصطفى زهران، صورة تجمع هذا المطرب ببعض المعجبين والمعجبات، وعلق قائلاً على صفحته على فيسبوك: "التحولات المجتمعية ما بعد الثورة التي رصدت إرهاصاتها واستشرفت مآلاتها في ورقتي المعنونة "التحولات السياسية والمجتمعية في السودان عقب إطاحة البشير"، وحينها عارضني إخوة كثيرون في السودان وخارجها".
كان زهران يشير إلى أطروحته المنشورة في مركز "تيكا" التابع لجامعة نجم الدين أربكان التركية، والتي نشرت في العام 2020 تحت عنوان: "السودان الجديد: تحولات السياسة والمجتمع والدين". وخلاصة الأطروحة، كما يظهر من عنوانها، أن هناك تحولاً كبيراً حدث في المجتمع السوداني بعد التغيير السياسي في العام 2019، وكانت ملاحظات زهران منصبة على إثبات ذلك برصد المستجدّات على صعيد المجتمع والدين والسياسة ومقارنتها بالوضع السابق. وكنت من معارضي هذه الأطروحة، الذين ذكرهم الباحث، وكان تعليقي بمجرّد الفراغ من قراءتها بعد أن منحني كاتبها نسخة منها، أن فيها تضخيما كبيرا لواقع المجتمع والسياسة السودانية.
هناك تغيير سياسي جذري حدث في السودان لا يمكن التقليل من أهميته وتأثيره، نتج منه استبدال كامل للطبقة السياسية ولأذرعها الاجتماعية. كانت الطبقة القديمة "إسلامية"، ليس بمعنى تمثيلها الإسلام الصحيح، ولكن بمعنى أنها كانت تحاول كسب الشرعية من خلال ربط مشروعها بالدين الإسلامي. بوضع ذلك في الاعتبار، يمكن أن نفهم حجم التغيير الذي حدث للأغلفة الخارجية للسلطة والمجتمع. يجب هنا أن نضع في الاعتبار عاملاً إضافياً، أن مجموعة جديدة ليبرالية ومعادية للإسلام السياسي هي من ورثت السلطة وسعت إلى تلوينها بألوان مغايرة.
أركز هنا على ما سمّيتها "الأغلفة الخارجية للسلطة"، للتفريق بين التغيرات الأصيلة والعميقة وغيرها من التحوّلات السطحية على قشرة الحياة السياسية والاجتماعية، ففي حين ينتج التغيير العميق واقعاً مغايراً جديدًا، لا تنتج التغيرات السطحية سوى مجرد نتوءات صغيرة.
النساء لم يكن جميعهن يرتدين الحجاب قبل 2019، وكانت هناك مناطق ومواقع معروفة بتحرّر أهلها وبارتدائهم ما يعتبر عند غيرهم شاذاً
صحيح أن عدد هذه النتوءات يبدو متزايداً وكثيفاً بسبب الأجواء المشجّعة، التي سمحت لها بالخروج إلى العلن، إلا أنها تظل نتوءات وحالات شاذّة لن ينجح تسليط الضوء عليها أو إضفاء أهمية على رموزها في نقلها من منطقة الهامش. على سبيل المثال، مع تخفيف القيود على ملابس النساء وإلغاء الشرطة المعنية بالآداب العامة، إلا أن القليل جدًا من النساء أو الفتيات جرؤن على ارتداء ملابس كاشفة وتفسير ذلك يكمن في أن سلطة المجتمع كانت، وما تزال، مسيطرةً على النطاق العام وأقوى تأثيراً من السلطة السياسية أو رغبة المشرعين الليبراليين.
يجدر التذكير في موضوع الملابس النسائية أن النساء لم يكن جميعهن يرتدين الحجاب قبل العام 2019، وأنه كانت هناك مناطق ومواقع معروفة بتحرّر أهلها وبارتدائهم ما يعتبر عند غيرهم شاذاً. أهمية تذكر ذلك تكمن في أنها تجعلنا نرى الصورة بأبعادها الحقيقية التي تخبرنا أن ليس كل ما نراه نبت بشكل غريب ومفاجئ من العدم.
مثال آخر حول سلطة المجتمع وقوتها يبرز في حالة التساهل الرسمي مع الكحول، فباعتبار أن الخمور المحلية جزء من الثقافة أو بذريعة منح الحق لغير المسلمين في شربها وتداولها، كان من الممكن أن تشهد البلاد رواجاً لجميع أنواع "المشروبات الروحية"، لكن الواقع كان يخبرنا أن المجتمع لم يكن يتساهل مع أي أحد يمكن أن يكون متهماً بالتصنيع أو التجارة في هذه المشروبات، وحتى في الحالات التي كانت الأجهزة الرسمية تتردّد في التدخل فيها كان المواطنون المحليون يتدخلون للقيام بما يعتبرونه تنظيفاً لمنطقتهم. بهذا كانت فكرة افتتاح متجر كحول تبدو لأي مستثمر أقرب إلى المخاطرة، حتى مع افتراض وجود قانون لا يجرمها، والأمر هنا شبيه بحالة الأزياء أو السلوكيات غير المقبولة في الشارع العام.
حفلة مغنٍ عربي في الخرطوم لا تعني شيئاً كثيراً على خريطة التحوّل المجتمعي العام، حتى لو صاحبتها تفاصيل تبدو مستهجنة
حادثة شهيرة حدثت حينما انتفض أهالي أحد أحياء الخرطوم واتحدوا لمحاربة بعض المقاهي، التي كان يطلق عليها محلياً اسم "الجنبات"، فعلى الرغم من أن تلك المقاهي لم تكن تقدّم الخمور، إلا أن أولئك المواطنين رأوا أنها توفر بيئة مناسبة لما يعتبرون أنها مظاهر سالبة. المثير في هذه الحادثة أنها وقعت في منطقة راقية في قلب الخرطوم. هذا يجعلنا نتساءل أنه إذا كان الوضع هكذا في منطقة تعتبر منفتحة نسبياً، فكيف سيكون الحال في الأرياف التي هي بطبيعتها أشد تمسكًا بالعادات؟
الافتراق والفصام بين القشرة المتغيرة والجوهر الثابت يظهر في إيلاء الحكومة، في وقت من الأوقات، اهتماماً كبيراً بموضوعات النوع وحقوق المثليين، إلى درجة تعيين مسؤولة حكومية معنية بالقضايا الجندرية. كانت تلك هي الفترة، التي كان بعض الأجانب يتساءل فيها عن العدد الحقيقي للمثليين في السودان، وما إذا كانوا بالفعل قادرين على إسماع أصواتهم وفرض أجندتهم بهذا القدر، وهو تساؤلٌ لا تكلف إجابته سوى زيارة قصيرة للبلاد للوقوف على مدى التسامح الشعبي في هذا الموضوع.
لا ينبع الاعتراض على أطروحة زهران من رفض وجود تغييرات بشكل مطلق، بقدر ما أنه يحاول أن يضع الصورة في وزنها وإطارها الصحيح، فحفلة مغنٍ عربي في الخرطوم لا تعني شيئاً كثيراً على خريطة التحوّل المجتمعي العام، حتى لو صاحبتها تفاصيل تبدو مستهجنة، فأغلب الناس لم يسمع بها ولم يتحّمس لحضورها، خاصة وأن تذكرتها لم تكن في متناول الجميع.
من الأخطاء السائدة، حتى بين القرّاء السودانيين للوضع السياسي والاجتماعي، الاعتقاد أن المجتمع تحوّل من الحالة الإسلامية إلى الحالة الليبرالية بشكل أوتوماتيكي تبعاً للتغير في هرم السلطة. مع الاحترام هنا لمقولة إن الناس على دين ملوكهم، إلا أن التعامل مع الأمر بهذا التبسيط يبدو أشبه بالقول إن المجتمع المصري تحول إلى العقيدة الإخوانية بمجرد وصول الرئيس محمد مرسي إلى الحكم.