هل تمكن هزيمة روسيا في أوكرانيا؟
لا تزال الحرب في أوكرانيا مشتعلةً منذ اندلاعها في 24 فبراير/ شباط الماضي، بل وتزداد سعارا بمرور الوقت، من دون أن تلوح في الأفق نقطة ضوء تبشّر بقرب الخروج من نفق مظلم دخل فيه النظام العالمي، وقد لا يستطيع الخروج منه بسهولة، فروسيا لم تحقّق بعد كامل الأهداف التي حدّدتها لنفسها من شن هذه الحرب، وأوكرانيا تصرّ على مواصلة القتال وتحرير كل الأراضي التي احتلتها روسيا، بما فيها شبه جزيرة القرم التي جرى احتلالها وضمها إلى روسيا عام 2014، والدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة لا تزال تقف بصلابة وراء أوكرانيا، ولم تكتفِ بمدّها بكل أنواع المساعدات الاقتصادية والعسكرية من أجل الصمود في الحرب ومواصلة القتال حتى النصر، وإنما فرضت أيضا حزما متتالية من العقوبات التي تستهدف تركيع روسيا وإجبارها على وقف الحرب والاعتراف بالهزيمة!
يصعب على أي مراقب يتابع تطورات الأزمة الأوكرانية تكوين رؤية موضوعية عن حقيقة ما يدور وراء كواليسها، أو تحديد المسار الذي يمكن أن تتخذه هذه الأزمة في الأمدين، المتوسط والبعيد، فالحرب المشتعلة على الساحة الأوكرانية لا تُدار بالوسائل العسكرية وحدها، وإنما بكل الوسائل المتاحة، بما فيها الوسائل الإعلامية التي كثيرا ما تلجأ إلى استخدام أساليب الخداع والتضليل وتزييف الحقائق للدفاع عن مواقف الأطراف المشاركة في هذه الأزمة أو تبريرها وللتأثير على الحالة المعنوية للخصم، فالخطاب الإعلامي للرئيس الروسي بوتين يسعى جاهدا إلى إقناع العالم بأن بلاده لم تلجأ إلى استخدام القوة العسكرية ضد أوكرانيا إلا مضطرّة، ولمواجهة تهديد وجودي تسبّب فيه إصرار حلف الناتو على التوسّع شرقا، وعلى استخدام دولة مجاورة، يشكل الروس أكثر من 20% من سكانها، مخلب قطٍّ يستهدف استنزاف طاقاتها ومنعها من تحقيق الاستقرار اللازم لتقدّمها وازدهارها، ويدافع عن قراره باحتلال إقليم الدومباس وضمّه، مثلما فعل ذلك من قبل مع شبه جزيرة القرم، مؤكّدا أنه لم يكن مدفوعا بالرغبة في التوسّع أو السيطرة، وإنما لحماية سكان روس معرّضين للخطر استغاثوا به ويفضّلون العيش في كنف الوطن الأم. ويلاحظ هنا أن الأهداف الروسية من العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا تغيّرت بتغيّر الأوضاع الميدانية على الساحة، ففي البداية سعى بوتين إلى احتلال العاصمة الأوكرانية وسيلة للضغط على الحكومة، والعمل على إسقاطها وتنصيب حكومة موالية لروسيا، لكن شراسة المقاومة الأوكرانية، من ناحية، وضخامة المساعدات الاقتصادية والعسكرية التي بدأ الغرب في تقديمها لأوكرانيا، من ناحية أخرى، أجبرتا بوتين على تغيير خططه والاكتفاء باحتلال (وضمّ) الأقاليم المتاخمة التي تقطنها أغلبية روسية. ولأنه اعتبر أن تحقيق هذا الهدف يشكّل الحد الأدنى الضروري لحماية روسيا وردع أوكرانيا عن الانضمام لحلف الناتو، فقد عكس خطابه الإعلامي تصميما على التمسّك به إلى النهاية، حتى لو اضطر لاستخدام الأسلحة النووية، التكتيكية منها والاستراتيجية على السواء.
أما الخطاب الإعلامي للرئيس الأوكراني، فلودومير زيلينسكي، فقد كان متحدّيا منذ البداية، وراحت نبرة التحدّي تتصاعد مع صمود القوات المسلحة الأوكرانية التي تمكّنت من وقف الاجتياح الروسي شمالي أوكرانيا وفك الحصار الذي فرضته القوات الروسية على العاصمة كييف. وحين تبيّن أنه حقق قدرا من التوازن على الأرض، يكفي للشروع في مفاوضات مع روسيا تستهدف وقف إطلاق النار تمهيدا للتوصل إلى تسويةٍ سياسيةٍ للأزمة، لم يمانع في الموافقة على لقاء وزير خارجيته، كوليبا، مع وزير الخارجية الروسي، لافروف، وهو ما تم فعلا في تركيا يوم 10 مارس/ آذار الماضي. ولكن يبدو أن الرئيس الأميركي، بايدن، نجح في إجهاض هذا اللقاء، بعد أن تعهد لزيلينسكي بتقديم أقصى قدر ممكن من الدعمين، السياسي والعسكري. وهكذا، راح زيلينسكي يتشدّد في مواقفه، بالتزامن مع تدفق دعمٍ لامحدود من الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي وكل القوى الأخرى المتحالفة معهما، بما في ذلك أستراليا واليابان، ويصر على مواصلة القتال إلى أن يتم تحرير كل الأراضي التي احتلتها روسيا، بما فيها جزيرة القرم. بل لقد وصل به التشدّد، خصوصا بعد أن مكّنته المعونات المتدفقة بلا حساب من شنّ هجوم مضاد واسع النطاق على المناطق التي أعلنت روسيا ضمها، إلى حد أنه أصبح يرفض الآن أي نوعٍ من التفاوض المباشر أو غير المباشر مع روسيا، طالما كان بوتين على رأس السلطة في الكرملين، ويؤكّد على أنه لن يتفاوض إلا مع خليفة بوتين وبعد تحرير كل الأراضي الأوكرانية!
صعبٌ على أي مراقب يتابع تطورات الأزمة الأوكرانية تكوين رؤية موضوعية عن حقيقة ما يدور وراء كواليسها
لقد أدرك بايدن، منذ اللحظة الأولى لاجتياز القوات الروسية الحدود الأوكرانية، وبصرف النظر عن صحة الرواية التي تدّعي أن الولايات المتحدة لم تكفّ عن التحرّش بروسيا، والسعي إلى استدراجها للتدخل في أوكرانيا، أملا في استنزافها ومنعها من بناء قدراتها، أن بوتين لا يستهدف أوكرانيا فقط، وإنما يستهدف، في الوقت نفسه، تغيير قواعد اللعبة الدولية، وإزاحة الولايات المتحدة من موقع الصدارة المنفردة للنظام الدولي، وهو ما يفسّر تصميمه على العمل بكل الوسائل لمنع روسيا من تحقيق أهدافها، بل ولإلحاق هزيمة كاملة بها على الساحة الأوكرانية. ولأن حرب بوتين على أوكرانيا أتاحت أمامه فرصة ذهبية لإعادة ترميم علاقة الولايات المتحدة بكل من الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، بعد أن كانت قد تدهورت كثيرا في عهد ترامب. وبالتالي، لتمكين الولايات المتحدة من إعادة تأكيد قيادتها العالم الغربي ككل، فقد كان من الطبيعي أن يسعى إلى تحويل هذه الحرب إلى مواجهة شاملة بين روسيا والعالم الغربي كله، وهو ما نجح فيه إلى حد كبير. من هنا إصراره الشديد ليس على فرض حصار اقتصادي شامل على روسيا فحسب، وإنما أيضا على مدّ أوكرانيا بكل ما تحتاجه من مساعدات عسكرية واقتصادية، مع الحرص، في الوقت نفسه، على ألا تؤدّي هذه المساعدات إلى اندلاع مواجهة عسكرية مباشرة، لا يستطيع أحد أن يضمن عدم تحوّلها إلى مواجهة نووية.
بعد ما يقرب من تسعة أشهر من اندلاع الحرب في أوكرانيا، تبدو الصورة، في حدود ما هو ظاهر على السطح كالتالي:
أولا: في ما يتعلق بسير العمليات العسكرية الدائرة على الساحة الأوكرانية، بدا واضحا أن أداء الجيش الأوكراني كان أفضل بكثير مما كان متوقعا، وأن أداء الجيش الروسي كان أسوأ بكثير مما كان متوقعا. ومع ذلك لا مؤشّرات موضوعية تسمح بالاعتقاد أن القوات المسلحة الإوكرانية باتت على وشك تحرير أراضيها المحتلة، أو أن القوات الروسية باتت على وشك الانهيار. صحيح أن كل طرف يسعى إلى تحقيق إنجاز مؤثر على الأرض قبل بداية فصل الشتاء، لكن من الواضح تماما أنه لن يكون في وسع أي منهما تحقيق إنجاز حاسم أو مؤثّر يسمح بتعديل المسار السياسي للأزمة. ولا أستبعد أن تكون الدعاية الأميركية قد تعمدت المبالغة كثيرا في تضخيم الإنجازات العسكرية الأوكرانية وفي التسفيه من أداء الجيش الروسي، وذلك لأغراض سياسية واضحة، رغم إدراك الولايات المتحدة يقينا أن بوتين لن يسمح بأن تلحق بجيشه هزيمة عسكرية في أوكرانيا وفي يده سلاح نووي، مهما بلغ حجم الشحنات العسكرية الغربية لأوكرانيا ونوعيتها.
المرجّح أن تؤدّي الأزمة إلى دور أكبر لكل من روسيا والصين في النظام الدولي
ثانيا: في ما يتعلق بتأثير العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا، يبدو واضحا أن نطاق تأثيرها امتدّ ليشمل العالم كله، ولم يقتصر على روسيا وحدها، وكانت لها ارتدادات سلبية على الدول التي فرضتها. أما بالنسبة لروسيا فقد استطاعت أن تحدّ كثيرا من انعكاساتها السلبية على اقتصادها الذي أثبت أنه يملك إمكانات كبيرة تمكّنه من الصمود ومواصلة الحرب. ودول العالم الثالث هي الأكثر تضرّرا من هذه العقوبات، بسبب ما أدّت إليه من تضخّم وارتفاع الأسعار، خصوصا أسعار النفط والحبوب والأسمدة.
ثالثا: في ما يتعلق بالمسار الذي يمكن أن تتخذه الأزمة الأوكرانية مستقبلا، يبدو أن العمليات العسكرية ستدخل مرحلة هدوء مع بداية فصل الشتاء، وستكون روسيا في وضع يمكّنها من استمرار الاحتفاظ بمعظم الأراضي الأوكرانية التي احتلتها، ومن ثم ليس مستبعدا أن تنشط المحاولات الرامية إلى إيجاد تسوية سلمية للأزمة مع بداية فصل الربيع المقبل، وذلك بسبب تزايد الضعوط في هذا الاتجاه من القوى المتضرّرة من استمرارها، وهي كثيرة. وربما تكون الصين الدولة المرشّحة للقيام بدور حاسم في أي تسوية سياسية محتملة. ولأنه لن يكون بمقدور أيٍّ من الطرفين المتحاربين تحقيق نصر عسكري حاسم في الأفق المنظور، فإن التسوية التي ستنتهي إليها هذه الأزمة، إن آجلا أو عاجلا، ستتيح لروسيا تحقيق بعض المكاسب، أقلها الاعتراف رسميا بحقها في ضم القرم، ومنح الجمهوريات الواقعة في نطاق إقليم الدومباس حكما ذاتيا كاملا، والتعهد بعدم انضمام أوكرانيا لحلف الناتو.
رابعا: في ما يتعلق بتأثير الأزمة الأوكرانية على بنية النظام الدولي ونمط التحالفات المستقبلية فيه، أكّدت التفاعلات الناجمة عن هذه الأزمة أننا إزاء أزمة عالمية بامتياز، وأن النظام الدولي بعدها سيكون مختلفا عما كان عليه قبلها. ولأنه ليس من المرجّح، في تقديري على الأقل، أن تؤدّي الأزمة إلى سقوط بوتين أو إلى هزيمة روسيا عسكريا، فالأرجح أن تسفر عن دور أكبر لكل من روسيا والصين في النظام الدولي، وربما ينهار تماسك حلف الأطلنطي. وعندها قد يقتنع قادة العالم أن الوقت قد حان للقيام بعملية إصلاح جذري للأمم المتحدة، يهدف إلى تمكينها من إرساء الأسس لقيادة جماعية متعدّدة الأطراف لنظام دولي جديد.