هل تنجح جهود إفشال المصالحة الخليجية؟
كاتب وصحفي، عمل مديرا عاما لقناة الجزيرة (2014-2018)، ومراسلا. وصانع أفلام، وكاتبا في صحف الرأي والغد والحياة.
جاءت التحرّشات البحرينية بقطر، اختراق الحدود البحرية والجوية، بتحريضٍ إماراتي لإفشال المصالحة الخليجية، أو السعودية القطرية على وجه الدقة، فالطرف الوحيد الذي يرفض المصالحة من حيث المبدأ هو الإمارات، لأسباب راهنة وأخرى بعيدة. في المقابل، للسعودية مصلحة حقيقية في المصالحة وفتح صفحة جديدة. أما عبد الفتاح السيسي، فهو يتحرّك وفق نظرية "الرز"، ولا مشكلة لديه بكيْل الرز من جميع الأطراف، بما فيها قطر، لكنه يزنها جيداً، قد ترجّح حبة أرز إماراتية كفة الميزان، والرّاجح أن لا يلبّي الدعوة السعودية لحضور قمة مجلس التعاون الأسبوع المقبل، انحيازاً إلى الإمارات.
لفهم الموقف الإماراتي، يمكن تحليل حساب حمد المزروعي، الذي لا يصدُر منه حرفٌ من دون إملاء أو علم الحاكم الفعلي للإمارات، محمد بن زايد. من يكتب بهذه البذاءة وهذا الحقد، فهل يمكن أن يصالح؟ ولمزيد من العمق، يمكن تحليل رسائل (إيميلات) سفير الإمارات في واشنطن، يوسف العتيبة الإلكترونية المسرّبة، وتغريدات الوزير الإماراتي، أنور قرقاش، المنشورة. الموقف الحقيقي حقد عميق يعود إلى ثاراتٍ قبليةٍ تاريخية، وحسدٍ على النفوذ والثروة في أيامنا القريبة. بين حقد قديم وحسد راهن لا يمكن العقل أن يتحكّم بغريزة الانتقام.
في النهاية، السعودية ليست الإمارة الثامنة. صحيحٌ إن وليّ العهد السعودي، محمد بن سلمان، مدين كثيراً لنظيره الإماراتي، وهو بمقام معلّمه ومرشده، ولكن ثمّة وزن أكبر للسعودية لا يمكن الإمارات أن تتخطّاه، ومصالح لا تتطابق دائماً، ورؤى لا تتوافق. لذلك، تحرص السعودية، هذه الأيام، على المصالحة، وفي المقابل تعمل الإمارات على إفشالها، فالسعودية تحتاج، في ظل خروج ترامب من البيت الأبيض إلى تصفير مشكلاتها، وبناء تحالفاتٍ بدل الخصومات، ليس مع قطر فقط، بل مع تركيا وإيران أيضاً.
لفهم صعوبة الموقف السعودي، يمكن قراءة ردة الفعل الأميركية على الحكم الصادر بحق الناشطة لجين الهذلول، مع أنه بحسب ما صرّح به مستشاران في الديوان الملكي السعودي لصحيفة وول ستريب جورنال الأميركية، جاء مخفّفاً بتدخل من ولي العهد. واجه الحكم موقفاً أميركياً غير مسبوق، من خلال تغريدة جيك سوليفان، مرشّح الرئيس المرتقب، بايدن، لمنصب مستشار الأمن القومي، وصف فيها الحكم بأنه "غير عادل ومثير للقلق"، مؤكداً في هذا، ليس بوعود انتخابية، بل بسياسية حقيقية، أن إدارة بايدن ستقف "ضد انتهاكات حقوق الإنسان أينما حدثت". وقضية لجين الهذلول ليست فريدة، فلدى السعودية ملفات مفتوحة أخرى، وليد فتيحي الذي يحمل الجنسية الأميركية، القضايا المرفوعة في القضاء الأميركي من سعد الجبري ومن زوجة جمال خاشقجي، ملفات جرائم الحرب في اليمن، وغيرها.
لم تكن السعودية متحمّسة للمصالحة، ولم تستجب لضغوط ترامب، ما دفعها إلى المصالحة موقف ترامب المتخاذل من الضربة الإيرانية لمنشآت لشركة أرامكو. بحسب ما سمعت من مسؤول عراقي، حضر الاجتماعات العراقية مع الملك سلمان وولي عهده، فإن رئيس وزراء العراق السابق، عادل عبد المهدي، ردّ على محمد بن سلمان الذي استعرض أمامهم المساعدات الأميركية العسكرية بعد ضربة "أرامكو" بأن الأميركيين احتلوا العراق بآلاف الدبابات و150 ألف جندي، لكنهم في النهاية انسحبوا، وما يحمي السعودية علاقاتها الحسنة مع جيرانها، حتى لو اختلفت معهم. انتهى اللقاء بطلب وساطةٍ عراقيةٍ مع الإيرانيين. وفي ذلك الوقت، بدأ تحرّك سعودي باتجاه قطر وتركيا أيضاً.
ما خفّف وتيرة المصالحة، قراءة سعودية لانحسار النفوذ الإيراني في المنطقة، عقب سقوط حكومة عادل عبد المهدي واغتيال قاسم سليماني. ولكنها تسارعت عندما بدأ العد العكسي لترامب. قد نكون على بعد أيام من المصالحة، وهي ليست مصلحة سعودية ولا قطرية، بقدر ما هي مصلحة عربية. وهي مسارٌ صعب، لا قرار سهل، فالاجتماع والصور التذكارية بالكمّامات لا تغير التاريخ، لكنها قد تغير الواقع والمستقبل نحو الأفضل.
يوم 5/6/2017 لا يمكن محوه من تاريخ المنطقة، وهو اليوم الذي تعرّض فيه بلد عربي لعدوان جائر استهدفه وجوداً وكياناً. ولكن ليس من المصلحة العربية، ولا الخليجية ولا القطرية ولا السعودية، التفكير بعقلية الثأر القبلي في القرن الحادي والعشرين. تجاوزت أوروبا عشرات ملايين القتلى في حربين عالميتين، وبنت الاتحاد الأوروبي، ولا يمكن أن يظل العالم العربي أسيراً لخلافات ضارّة بالجميع. ولا يمكن بناء سياسة خليجية وفق عقلية الإمارة الثامنة، أي أن تتعامل كل دولة خليجية بوصفها الإمارة الثامنة الملحقة. توجد مساحات اتفاق تماماً كما توجد مساحات اختلاف. المهم الاتفاق على أن الاختلاف طبيعة في الدول تماماً كالأفراد. تسعى الإمارات إلى بناء إمبراطورية بقواعد عسكرية من أرض الصومال إلى أرتيريا، وصولاً إلى ليبيا ومصر وعدن. في المقابل، لقطر سياسة خارجية مختلفة معها، قائمة على احترام إرادة الشعوب التي عبّر عنها الربيع العربي. تنظر إلى تركيا عدواً، وقطر تعتبرها حليفاً. هذا الخلاف في السياسة الخارجية سيبقى، نجحت المصالحة أو تعثرت. داخلياً، جرت منذ الاستقلال في الكويت انتخابات نيابية، وفي السعودية تعتبر الانتخابات رجساً من عمل الشيطان، ولا يمكن فرض توجّه على بلد باسم التعاون الخليجي.
يؤمل أن يكون يوم 5/1/2021 صفحة بيضاء جديدة في تاريخ المستقبل، تتجاوز صفحات سوداء، تُذكر ويؤمل ألا تعود. تُذكر للعبر لا للثأر. العبرة أن الإدارات الأميركية تتغير، لكن الجغرافيا باقية لا تتغير، وكذلك الشعوب.
كاتب وصحفي، عمل مديرا عاما لقناة الجزيرة (2014-2018)، ومراسلا. وصانع أفلام، وكاتبا في صحف الرأي والغد والحياة.