هل فشل الحُلم الإسرائيلي بشرق أوسط جديد؟
من المهم إيضاح أولاً أن مشروع "الشرق الأوسط الجديد" الهادف إلى إحداث تغيير ديموغرافي وجيوسياسي في المنطقة العربية لصالح إسرائيل ليس قرين حرب الإبادة الجماعية الهوياتية التي يشنها الكيان الصهيوني حالياً، بشكل فج في قطاع غزّة ، وبطرق متفاوتة الفظاعة في الضفة الغربية والجنوب اللبناني، وإن لهذا الاصطلاح الإسرائيلي - الغربي سياقاً تاريخاً ممتدّاً من الناحية العملية على الأقل، منذ فترة رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إسحاق رابين، ووزير خارجيته شمعون بيريز، أوائل تسعينيات القرن الماضي، وإنْ قد كان شابه بعض التغييرات الهيكلية، التي أعادت تعريف الكيان الصهيوني الاستيطاني من إسرائيل العظمى القائمة على فكرة التفوّق العنصري، والعسكري، والتكنولوجي، والمجتمعي، مع الإبقاء على هامش جغرافي للفلسطينيين في أرضهم المحتلة، وفقاً لاتفاق أوسلو (13 ديسمبر/ كانون الأول 1993) المنكوص صهيونياً، إلى إسرائيل الكبرى القائمة على عناصر التفوق المذكورة آنفاً، إضافة إلى السيطرة المطلقة على الأراضي الفلسطينية كاملة، وجزءٍ من لبنان في فترة حكومة نتنياهو والتيار اليميني المتطرّف.
واستناداً إلى واقع الصراع القائم، وإلى السياق التاريخي للصراع العربي الصهيوني، ليس من التسرّع في شيء القول إن هذا المشروع، وبعد أكثر من عام على الحرب غير المسبوقة في البشاعة، فشل في التبلور جغرافياً، وفي إيجاد اعتراف سياسي إقليمي بأحقية وجوده، وذلك لاعتباراتٍ عديدة.
أولها: الصمود الفلسطيني المنقطع النظير في قطاع غزّة، سواء على مستوى المجابهة العسكرية التي منعت إسرائيل من تحقيق أهدافها المعلنة من هذه الحرب، المتمثلة باجتثاث الفعل المقاوم، واستعادة الأسرى، وإقامة حكم بديل لحركة حماس في قطاع غزّة. أو على المستوى الشعبي، بالتشبث بالأرض، وهزيمة مشروع التهجير، الذي عمدت إسرائيل لتحقيقه بارتكاب أبشع جرائم الإبادة الجماعية، والتطهير العرقي، وهدم كل مقوّمات البقاء. ومع ذلك، يتمسّك الفلسطينيون بأرضهم وهويتهم العربية، بآخر قطرة من دمائهم، وبآخر رمق لهم في الحياة لم يقتله الجوع والخذلان والمرض.
غريزة البقاء لدى الفلسطينيين، والاستفادة من درس نكبة 1948، أطاحت السردية الصهيونية القائمة على المظلومية والنبذ
والماثل اليوم أن غريزة البقاء لدى الفلسطينيين، والاستفادة من درس نكبة 1948، أطاحت السردية الصهيونية القائمة على المظلومية والنبذ، وقهرت التفوّق العسكري، والتكنولوجي، وأعادت إحياء القضية الفلسطينية، وحقّ الفلسطيني في أرضه، ذلك الحقّ الذي تعتسفه الأنظمة العربية بمسمّى "حلّ الدولتين"، وأوجدت مناصرين للقضية الفلسطينية في معقل الصهيونية (المجتمعات الغربية)، ووضعت الأنظمة الغربية، وخصوصاً الأوروبية، في مأزق أخلاقي أمام شعوبها وادعاءاتها القيمية.
ثانياً: قدرة حزب الله على امتصاص ما يمكن تسميتها الضربة غير المتوقعة، أو الخرق الاستخباري، الذي نجحت من خلاله إسرائيل في اغتيال (تقريباً) قادة الصفين، الأول والثاني، في الحزب. ومع ذلك، نجحت المقاومة في المحافظة على معادلة الصراع المعلنة سابقاً، أي إن إسرائيل لم تستطع، وربما لن تستطيع، إعادة سكان المستوطنات في الشمال بالفعل العسكري التدميري، واحتلال ما تطلق عليها المنطقة الآمنة منزوعة السلاح، التي تمتد من الحدود حتى ما وراء نهر الليطاني، لأن ذلك يستلزم قتالاً التحامياً، وإسرائيل غير قادرة عليه، وإذا ما أقدمت على هذا النوع من المواجهة فإنها قد تُجابه بمقاومة أعنف من التي لاقتها في قطاع غزّة، بمعنى أنه لا يمكن تغيير حقائق الجغرافيا بالتفوق التكنولوجي وحده، لأن التكنولوجيا لا تصنع نصراً عسكرياً ساحقاً يُمكّن من إحداث تغيير ديموغرافي شامل، كما تطمح إسرائيل.
تعدّى حزب الله في استهدافاته المستوطنات الحدودية إلى الاستهداف شبه المتواصل لحيفا
والحال أن حزب الله تعدّى في استهدافاته المستوطنات الحدودية، إلى الاستهداف شبه المتواصل لحيفا، إحدى المدن المهمة من الناحية اللوجيستية للكيان الصهيوني، كونها أحد معاقل الصناعات الإسرائيلية، وبمقدور المقاومة في لبنان مواصلة استهدافها أيضاً من وراء نهر الليطاني، اعتماداً على المعادلة العسكرية القائمة.
قد يجعل هذا المنطلق في التحليل بعضهم يتصوّر أن المنظور الإسرائيلي للصراع يدور ضمن نطاق قرار مجلس الأمن 1701. وهنا يبرز سؤال منطقي: لماذا لا تكون إسرائيل تسعى، في الأساس، إلى احتلال نهر الليطاني، وتحويل مصبّه من البحر الأبيض المتوسط نحو الأراضي المحتلة في فلسطين؟! تماشياً مع معطيات الواقع التي تؤكّد أن كل ما تقوم به حكومة اليمين المتطرف في إسرائيل منذ عمليات 7 أكتوبر (2023) هي محاولات لتحقيق أحلام قديمة، ومخططات كانت معدة سلفاً ومخبأة في الأدراج.
العامل الثالث، قدرة إيران في الإبقاء على معادلة الصراع بعيدة عن مشروعها الأهم "البرنامج النووي"، الذي نجا من الاستهداف الإسرائيلي نتيجة معطيين: الافتقار الإسرائيلي لمقومات ضرب المنشآت النووية شديدة التحصين، التي يستلزم تدميرها قنابل ثقيلة لا يملك الكيان الصهيوني القاذفات القادرة على حملها، وفقاً للتقدير العسكري. الرغبة الأميركية في عدم انزلاق المواجهة القائمة نحو حرب شاملة، لا تحبّذها واشنطن في هذا التوقيت بالذات، الذي تنخرط فيه، في أتون حربٍ تكاد تكون مباشرة مع روسيا في أوكرانيا.
هنالك تفاوت وانقسام عربي في التعاطي مع وقائع الحرب الصهيونية التي أثرت كثيراً في الدولة المصرية ومقدّراتها
العامل الرابع في فشل مشروع "الشرق الأوسط الجديد" الصهيو أميركي غير منخرط في المجابهة الخشنة، ويعتمد على الوسائل الناعمة في إدارة الصراع، والتعامل مع تهديداته المباشرة، والمقصود هنا الموقف المصري الثابت من رفض مشروع التهجير، وتصفية القضية الفلسطينية.
لكن الإشكال الحقيقي الذي تواجهه مصر في هذه الفترة العصيبة التي شبّهها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بفترة ما بعد نكسة 6 يونيو/ حزيران (1967) هو أن مصر لا تمثل حلفاً عربياً أو موقفاً موحداً، كما جرت العادة، على امتداد تاريخ الصراع العربي الصهيوني منذ نكبة 1948، بل هنالك تفاوت وانقسام عربي في التعاطي مع وقائع الحرب الصهيونية التي أثرت كثيراً في الدولة المصرية ومقدّراتها، ووضعتها أمام تحدّيات كبيرة تستهدف أمنها القومي وثقلها الجيوسياسي المتمثل بقناة السويس، في وضع تبدو فيه الدولة المصرية محاصرة بأزمتها الاقتصادية، وبالاحتشاد الأميركي الغربي وراء العربدة الإسرائيلية. يتجلّى ذلك التفاوت أو الاختلاف في التقدير الاستراتيجي العربي للمشروع الصهيوني بوضوح بين مصر والإمارات، بينما تحتفظ السعودية بمقاربة خاصة تنتظر من خلالها الإدارة الأميركية المقبلة، لعلها تحصل على الصفقة المناسبة.
والواقع أنه كما جرت العادة بأن أي حربٍ كبيرة تخلص في النهاية إلى واقعٍ جديد، فإن هذه الحرب كذلك ستأتي بوضع جديد، لكنه لن يكون بالضرورة متماشياً مع طموح إسرائيل بشرق أوسط جديد تتسيّد فيه، وهي الكيان الدخيل على الجغرافيا العربية، لأنه طموح يقفز على حقائق الجغرافيا والتاريخ، وعلى قدرة هذه الأمة في مجابهة المحن، وقدرتها الأصيلة على تخليق مقاومتها لكل محتل، مهما تجبّر ودمّر.