هل قرأ الجولاني "الفريضة الغائبة"؟

23 ديسمبر 2024
+ الخط -

كان يوماً شتوياً بارداً من أيام نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2017، حين دخلتُ مسجداً صغيراً متواضعاً في مخيّم الشاطئ في قطاع غزّة للقاء أحد المنظّرين الجهاديين، الذين فرّوا من مصر إلى غزّة بعد عزل الرئيس محمّد مرسي في 2013. كنت أبحث في حال الجهاديين بين سيناء والقطاع. أُخبرت أن آتي وحيداً من دون كاميرات أو آلة تسجيل. انتظرته إلى حين فرغ من صلاته، وأعطى درساً مقتضباً للمصلّين، ومشينا إلى منزله المتواضع. كالمعتاد في غزّة آنذاك، كانت الكهرباء مقطوعة، وجلسنا في ضوء أزرق باهت يأتي من مصباح لقتل البعوض، يعمل بالبطارية. لدى أبو أحمد (وهو ليس اسمه) أسلوب جميل في سرد الحكايات. ورغم وزنه المقدّر بين جهاديّي غزّة آنذاك، انصبّ حديثه على حقبة عاصرها جيّداً في نهاية سبعينيّات القرن الماضي، وشهد فيها تطوّر الجماعة الإسلامية والجهاد الإسلامي في مصر، وهو التطوّر الذي قاد إلى اغتيال الرئيس المصري أنور السادات عام 1981. معلومة مثيرة أسرّ لي بها أبو أحمد، وتذكّرتها مع سقوط نظام الأسد في 8 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، حين قال إنه كان واحداً من عدّة شيوخ أقرّوا وصادقوا كتيّباً لـ"شابّ جيّد، صغير"، وفق ما قال بلهجته المختلطة بين الغزّية والمصرية، وهو "الفريضة الغائبة" لعبد السلام فرج، الذي بات منذ ذلك الحين من الكتب المؤسِّسة للحركات الجهادية، أو الدليل العملي للتفكير الجهادي.

مشهد الجهادي أبو محمّد الجولاني، داخلاً المسجد الأموي بعد إسقاط نظام الأسد، قد يكون أول الانتصارات للسلفيين الجهاديين ضدّ عدو قريب

أسّس كتيّب "الفريضة الغائبة"، ويعني بها المؤلّف الجهاد، فكرةً ثوريةً في الفكر الإسلامي التقليدي بعدّه "قتال العدو القريب أولى من قتال العدو البعيد"، ذلك أن محورية الكتيّب تدور في إطار "كفر الأنظمة الحاكمة"، وبالتالي، سيُحسب تحرير أراضي المسلمين (ومنها القدس)، وإن كان واجباً شرعياً (وإن حصل)، "لصالح الحاكم الكافر القائم، وهو تثبيت لأركان الدولة الخارجة على شرع الله". ويرى فرج أن أساس وجود الاستعمار في بلاد الإسلام هؤلاء الحكام، والبدء بالقضاء على الاستعمار "عمل غير مجدٍ وغير مُفيدٍ وما هو إلا مضيعة للوقت". أسّس فرج لهذا المبدأ الثنائي، الذي ستبقى المجموعات الجهادية تتقلّب بين طرفيه بحسب الظروف السياسية. وقد أكّد أبو أحمد، وهو القريب من قيادات الجهاديين الصاعدين آنذاك، أن الهدف من اغتيال السادات، في تطبيق عملي لما دعا إليه فرج، كان أن تبدأ ثورة في كل أنحاء مصر. لكنّ الجهاديين، دفعوا للعودة إلى قتال "العدو البعيد"، بحكم الضغط الأمنيّ بعد اغتيال السادات، وبحكم بدء حقبة "الجهاد الأفغاني"، التي كانت ملجأً للجهاديين الفارّين من مصر، ومختبراً للسلفيين، خصوصاً من السعودية، للاندماج بالفكر الجهادي، لينتج الحركة السلفية الجهادية التي كان تنظيم القاعدة أبرز تمثّلاتها لاحقاً.
وبعد هزيمة السوفييت، تقلّبت السلفية الجهادية بين مواجهة العدو القريب، حين عاد بعض الجهاديين إلى بلدانهم الأصلية وساهموا في مواجهات مختلفة، وهناك نماذج في الأردن، ومصر، والمثال الأبرز في الجزائر، التي شهدت حرباً أهلية عُرفت بالعشرية الدامية، وأخرون ممّا لم يتسنَّ لهم المشاركة في جهاد "العدو القريب"، فاتجهوا إلى قتال العدو البعيد مرّة أخرى في طاجيكستان، والشيشان، والبوسنة، وتشكّلت من هجمات القاعدة في دار السلام ونيروبي بنية مواجهة "العدو البعيد"، التي وصلت إلى ذروتها في 11 سبتمبر (2001)، التي أفرزت بحكم الحملة الأمنية انزياحاً لمواجهة "العدو القريب" مرّة أخرى في السعودية، واليمن، وهجمات في أكثر من بلد عربي، إلى حين بدء الاحتلال الأميركي للعراق، الذي أفرز جيلاً جديداً من الجهاديين، أكثر تطرّفاً، وأعاد الأولوية لمواجهة "العدو البعيد"، وانتج فكرة السيطرة على مساحات جغرافية، وإدارتها، سواء في سياقات "إدارة التوحّش" في إدارة مناطق حكم صغيرة، كما عمد حلفاء "القاعدة" في اليمن، والصومال، والجزائر، والعراق، بتأسيس "قاعدات" عدّة حسب المنطقة الجغرافية.
وبذلك، بات التنقّل بين العدوين، البعيد والقريب، من البنية الأيديولوجية إلى السلفية الجهادية، وبقي التيّار السلفي الجهادي محكوماً بثنائيات تمنحه هذا البعد البراغماتي (العدو القريب والعدو البعيد، والمحلّية والعالمية، والجهاد الفردي والجمعي، والشريعة والموارد، ونمط العمليات في مقابل السيطرة على بقعة جغرافية، وغيرها).
وفيما أعاد "الربيع العربي" الزخم إلى الداخل ومواجهة الحكّام، قد يكون مشهد الجهادي أبو محمّد الجولاني، زعيم هيئة تحرير الشام، المعروفة سابقاً بجبهة النصرة، داخلاً المسجد الأموي في دمشق، بعد إسقاط نظام بشّار الأسد، أول الانتصارات للسلفيين الجهاديين ضدّ عدو قريب بهذا الشكل، ويثير أسئلة كثيرة عمّا إذا كان الجولاني، الذي بات يعرف باسمه الأصلي الجديد أحمد الشرع، واستبدل زيّه الأفغاني ببدلة حديثة، وهذّب لحيته، وبات يتحدّث عن إعادة إنتاج حكم حديث، كما مارسه في إدلب عبر حكومة الإنقاذ عدّة سنوات (مع تحفّظات على هذا الحكم)، قد تحوّل بالفعل وتاب عن جهاديته، أم أنه يمارس تقيّة سياسية؟ وهل هو جهادي حقيقي أم لا؟
السؤال، وإن شغل دوائر كثيرة، إن لم يأخذ التحوّلات التي مرّت بها السلفية الجهادية، وفهم بنية هذا الفكر، سيكون سؤالاً تبسيطياً، فالجولاني/ الشرع ما زال سلفياً جهادياً، لكنّه يعبّر عن التحوّل من داخل الفكر نفسه. ويبدو أن تجربته في العراق، وخلافه لاحقاً مع قائده، وزعيم تنظيم ما يعرف بـ"الدولة الإسلامية" (داعش)، أبو بكر البغدادي، حين أبقى على بيعته لتنظيم القاعدة، تعبير عن تصادم بين فكرتي المحلّية والعالمية وبين الشرعية والموارد، وبين النصرة بالتغلّب وكسب الناس. والأهمّ، بين أولوية مواجهة "العدو القريب" على "العدو البعيد". كذلك فإن الجولاني/ الشرع تخلّى عن الارتباط بتنظيم القاعدة، بتغيير اسم تنظيمه من جبهة النصرة إلى هيئة تحرير الشام، وهذا وإن اعتبره بعضهم نوعاً من الابتعاد عن أيديولوجيته الجهادية، غير صحيح، فأسامة بن لادن، وقد تأثّر الجولاني به وبطريقة لباسه وبحديثه في فترات مختلفة، دعا بعد "الربيع العربي" إلى تغيير اسم "القاعدة" أيضاً، رغم تاريخيّة الاسم، إلى أسماء أقرب إلى "الأمّة"، والمفارقة أن واحداً من الأسماء التي اقترحها (كما كشفت وثائق أبوت أباد) جماعة تحرير الأقصى، التي تتقاطع مع فكرة اسم هيئة تحرير الشام.
تستجيب مسألة تغيير الأسماء هذه أيضاً لبنية براغماتية محدودة في إطار الأيديولوجيا السلفية الجهادية التقليدية، في مقابل الأيديولوجيا الصلبة في حال تنظيم ما يعرف بالدولة الإسلامية، التي اعتمدتها، لكنّها تراخت في عمليات التجنيد، بينما بقي جناح "القاعدة" براغماتياً في الأيديولوجيا، انتقائياً جدّاً في التجنيد. وبهذا المعيار، حقق الجولاني أهداف تيّاره، بالانتصار على "العدو القريب"، ولو بعد حين، بينما لم يستطع تيّار "الدولة" التمسّك بالمساحات الجغرافية التي سيطر عليها، وهزمه أيضاً (إلى حين) "العدو البعيد".
وبالتالي، كان الخلاف، لا بل المواجهة المسلّحة، بين تنظيمَي الدولة الإسلامية والقاعدة، تعبيراً عن وصول ذروة الثنائيات الجهادية إلى قمّة التصعيد بالصراع المسلّح. وعلى ذلك، لا تُعتبر سياسات الجولاني/ الشرع الجديدة، بالإبقاء على مؤسّسات الحكم التابعة للنظام، وإرسال الطمأنات للأطراف الإقليمية، وشعار "فتحاً لا ثأراً"، ومنطق الدولة لا الثورة الذي يتحدّث من خلاله، وتلك الطمأنات للأقلّيات في سورية، خروجاً من الأيديولوجيا السلفية الجهادية، بل تحوّلاً في داخلها، وقد استجاب التيّار التقليدي فيه لتلك الأسئلة منذ "الربيع العربي"، ولعلّ موقفه من المسيحيين (على سبيل المثال) أنعكس في تعامل المعارضة السورية حينها مع مسيحيّي حلب بعد السيطرة عليها، واحترام احتفالاتهم بأعيادهم، فالسلفيون الجهاديون، منذ "الربيع العربي"، يحملون تصوّرَين، فقهي وسياسي، فهم يعتبرون المسيحيين "كفّاراً" في مسلّمة دينية، ويسقطون "أحكام الذمّي" على من يعيش منهم في الدول ذات الأغلبية المسلمة. وبالتالي، يثار سؤال عن جواز استهدافهم، وهنا يبرز التصوّر السياسي بشكل أوضح، حيث يشترطون لتنفيذ هجمات على المسيحيين أن يكونوا "معتدين"، وهو أمر نسبي حسب المكان والتوقيت، إلخ. وهو الموقف الذي لم يتبعه تنظيم ما يعرف بـ"الدولة الإسلامية"، مع الأقلّيات في العراق، بمن فيها المسيحيون، بتعليم أبوابهم بحرف النون (نصارى)، أو الأزيديون الذين مورست العبودية الجنسية ضدّ نسائهم، وتكفير عموم الشيعة (رفضه التيّار التقليدي من السلفيين الجهاديين)، والقائمة تطول.

سياسات الجولاني ومنطق الدولة الذي يتحدّث من خلاله، ليست خروجاً من الأيديولوجية السلفية الجهادية، بل تحوّل في داخلها

وبعد إسقاط نظام الأسد، كان الردّ من تنظيم الدولة الإسلامية مقالاً في مجلّة "النبأ"، بعنوان "تدجين وتجنيد"، معتبراً ما حدث "عملية إبدال مدروسة للنظام النصيري (وصف الجهاديين نظام الأسد)، بنظام يحارب الشرع بالشرع. معتبراً أن استخدام "الجهاديين المدجّنين" أسلوباً لمكافحة الإرهاب، بعد أن اقتنع أولئك بأنه "لا جدوى من سلوك سبيل الجهاد لإحداث التغيير المطلوب"، وهو ما يؤشّر على حال القطيعة بين الطرفَين، وفق تصورات كلّ طرف للثنائيات الحاكمة للأيديولوجية الجهادية.
التحدّي الذي يواجهه الجولاني/ الشرع، هو نسج العلاقات، وإدارة الواقع السياسي، بعيداً من إكراهات أيديولوجيته السلفية الجهادية، من دون الخروج منها، وسيواجه بمحكّات ترتبط بكيفية إدارة الفضاء الديني المتنوع في سورية، وإدارة الأطراف السياسية، وكذلك الملفّ الإقليمي المرتبط بأسئلة بنيوية في إيديولوجية التيّار، في ما يتعلّق بعلاقتها بأطراف معينة، وتحديداً تركيا ودول الخليج، والأكثر تحدّياً للأيديولوجية السلفية الجهادية إسرائيل. ففي حين أن هذه الأسئلة تبدو مؤجّلة، وفق التحوّل البنيوي للتيّار، إلا أنّها أسئلة ليست تحدّياً أيديولوجياً فحسب، بل هي ترتبط بمراكز القوى في داخل الهيئة أيضاً، ولعلّ في ما كتب محمد عبد السلام فرج في كتيّبه عن تحرير القدس دالة واضحة: "وهناك قول بأن ميدان الجهاد اليوم هو تحرير القدس كأرض مقدّسة، الحقيقة أن تحرير الأراضي المقدّسة أمر شرعي واجب على كلّ مسلم، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف المؤمن بأنه كيّس فطن، أي أنه يعرف ما ينفع وما يضر ويقدّم الحلول الحاسمة الجارية"، ولعلّ أبو أحمد وجد في الكتيّب ما سيفيد الحركة الجهادية فوافق عليه.
ما زلتُ أذكر نقزة صغيرة، تسبّب بها موت بعوضة على مصباح أبو أحمد، وأنا أهمّ بوداعه، فلم أسمع منه ولا عنه منذ ذلك الحين.

مراد بطل الشيشاني
مراد بطل الشيشاني
كاتب وإعلامي أردني، مراسل متجول، ماجستير في العلوم الإنسانية.