هل لبنان على عتبة انقلاب سياسي؟
في ظل أخطر أزمةٍ صحيةٍ وماليةٍ واقتصاديةٍ واجتماعيةٍ يعيشها لبنان، يبدو أن العراقيل الكثيرة التي تعترض تشكيل حكومة جديدة، وتصدّع العلاقة بين رئيس الجمهورية ميشال عون والرئيس المكلف سعد الحريري، بعد تسريب فيديو للرئيس عون يتهم فيه الحريري بالكذب، أصبحت تتعدّى مسألة خلافاتٍ بين الأحزاب على توزيع الحصص الوزارية، وتنطوي ربما على هدفٍ أكبر وأخطر هو محاولة تغيير قواعد اللعبة السياسية المتعارف عليها في لبنان، كي لا نقول عملية انقلاب سياسي على الصيغة اللبنانية، كما وردت في اتفاق الطائف المعروف باسم وثيقة الاتفاق الوطني التي أقرّها المجلس النيابي اللبناني في 1989، والتي وضعت حداً للحرب الأهلية في لبنان، وأعادت توزيع الصلاحيات بين الرئاسات الثلاث، لا سيما بين رئاسة الجمهورية المخصّصة للمسيحيين والرئاسة الثانية التي تمثل المسلمين السنة في لبنان.
الخلاف الحاد الدائر اليوم على الصلاحيات بين عون وصهره جبران باسيل وبين الرئيس المكلف سعد الحريري من مظاهر تغيير قواعد اللعبة السياسية، الذي يرغب فريق رئاسة الجمهورية في تحقيقه في المدة المتبقية لولاية عون، من أجل ضمان انتخاب باسيل رئيساً بعد عامين، وذلك بالاعتماد على دعم حليفه حزب الله. والسؤال هنا: ما القاسم المشترك بين مشروع جبران باسيل الرامي إلى تغيير قواعد اللعبة السياسية ونظرة حزب الله إلى إعادة صياغة هذه القواعد؟
معلوم أن ميشال عون وقف ضد اتفاق الطائف منذ توقيعه في 1989، واعتبره اتفاقاً جاء على حساب المسيحيين في لبنان، وأضعف موقع رئاسة الجمهورية وهمّش دورها، وانتزع من رئيس الجمهورية حقّ حل المجلس النيابي، وقيّد تكليفه رئيس الحكومة بالاستشارات النيابية الملزمة، وفرض قيوداً على قدرته على اتخاذ القرارات، وألحقه بمجلس الوزراء. لذا كان الشعار الذي رفعه عون، منذ عودته إلى لبنان من منفاه الباريسي في عام 2005، استرجاع حقوق المسيحيين، وهذا ما يواصل المطالبة به جبران باسيل، صهر الرئيس والمرشح الأقوى لمنصب الرئاسة، من خلال استنهاض العصبية الطائفية، وحملة تحريض المسيحيين ضد الرئيس المكلف، وإعلانه عدم أهليته، واتهامه بأنه يريد تحويل رئيس الجمهورية إلى "باش كاتب" لا رأي له ولا سلطة، حتى في تسمية الوزراء المسيحيين أسوة بتسمية الوزراء الشيعة من زعاماتهم السياسية، ودعوته إلى عقد سياسي جديد.
يلتقي جبران باسيل وحزب الله في موضوع تغيير الصيغة اللبنانية السائدة حالياً
في الصراع الدائر حالياً، مارس الحليف الأساسي لرئيس الجمهورية ولتياره، حزب الله، سياسة التقية، فهو يقف علناً ضد التعطيل وعرقلة تشكيل الحكومة، لكنه ضمنياً يدعم فريق رئيس الجمهورية، وتعامل مع تشكيك باسيل بأهلية سعد الحريري لتولي منصبه دليلاً على "أزمة ثقة" بين الطرفين. ولكن موقف حزب الله الفعلي من الخلاف على الصلاحيات، ومن تغيير قواعد اللعبة السياسية، لا يقوم على ظروف سياسية آنية متغيرة، بل يستند إلى نظرة أكثر عمقاً تتعلق برؤيته لمستقبل النظام السياسي في لبنان.
منذ 2012 والأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، يدعو إلى إعادة النظر في قواعد اللعبة السياسية الحالية في لبنان، وإقامة جمعيةٍ تأسيسيةٍ تضع دستوراً جديداً يعكس الموازين الفعلية للقوى السياسية في البلد. والفكرة الضمنية التي يسعى إليها الحزب هي حصول الشيعة على تمثيل سياسي أكبر يعكس وزنهم الحقيقي، وأن تحلّ المثالثة محل المناصفة بين المسيحيين والمسلمين، بحيث يتحوّل الشيعة إلى بيضة قبان، ويمكنهم إعطاء رئاسة الجمهورية إلى باسيل بعد انتهاء ولاية ميشال عون.
يستند حزب الله إلى نظرة أكثر عمقاً تتعلق برؤيته لمستقبل النظام السياسي في لبنان
عند هذه النقطة، يلتقي جبران باسيل وحزب الله في موضوع تغيير الصيغة اللبنانية السائدة حالياً. ولكن هل يعني هذا موافقة باسيل على مبدأ المثالثة مقابل حصوله على منصب الرئاسة مع كل التداعيات التي ينطوي عليها ذلك على صورة لبنان المستقبلية ومكانته وعلاقته بدول الإقليم وبالمجتمع الدولي؟ من الصعب الإجابة عن هذا السؤال، لكن الرغبة الجامحة والمحمومة لجبران باسيل في ضمان انتخابه رئيساً للجمهورية تدفع إلى القلق. اعتماد باسيل بصورة أساسية على الدعم السياسي لحزب الله الذي يملك أكبر قوة عسكرية في لبنان للوصول إلى الرئاسة، والحليف الأساسي لإيران، لا بد أن تكون له ارتداداتٌ على وضعية المسيحيين في لبنان وخصوصيتهم، وعلى دورهم في تقرير مستقبل هذا البلد. ويمكن لهذا الاعتماد أن يحوّلهم، مع مرور الوقت، إلى أقلية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بموازين القوى السياسية في الإقليم، كما حدث ويحدث في سورية والعراق.
هل جبران باسيل زعيم أكبر كتلة مسيحية في البرلمان اللبناني الذي يرفع شعار استعادة حقوق المسيحيين مستعد من أجل الوصول إلى سدة الرئاسة للتضحية بالخصوصية المسيحية، وبالصيغة اللبنانية التوافقية؟ والأخطر من ذلك، كيف يمكن لمعسكر رئاسة الجمهورية الدخول في مثل هذه المغامرة السياسية غير المحمودة العواقب، في وقت يعيش فيه البلد كارثة وشعبه مهدّد بالجوع والموت؟