هل من تغيّر في المواقف غرباً؟
مع استمرار الحرب على غزّة، يظهر بجلاء انقلابٌ عميقٌ في الموقف الشعبي الأوروبي، وخروج مئات الآلاف من مواطني الدول التي عبّر مسؤولوها عن دعمهم غير المشروط لآلة القتل الإسرائيلية منذ اليوم الأول، موضحين أن هذا يدخل في بند الدفاع عن النفس، إثر هجوم حركتي المقاومة الإسلامية (حماس) والجهاد الإسلامي على قواعد ومستوطنات إسرائيلية في 7 أكتوبر/ تشرين الأول (2023). كذلك، اتّضحت الانقسامات بين الدول المنتمية إلى اتحاد أوروبي لم يتميّز في تاريخه بأي تنسيق على مستوى السياسات الخارجية، فقد تميّز الموقف الأيرلندي بإيجابية تجاه حقوق الفلسطينيين، وهذا مرتبط أساساً بتاريخ حركات التحرّر الأيرلندية وتجاربها. كذلك عبّر وزراء إسبان، كما رئيسهم، عن مواقف متميّزة نسبياً ضد أعمال القتل الجماعي وجرائم الحرب التي يقترفها جيش تل أبيب في غزّة. وبرز موقفٌ شديد النقد للسياسات الإسرائيلية من حكومة بلجيكا، وهي البلد المضيف مقرّ الاتحاد الأوروبي. موقفا إسبانيا وبلجيكا دفعا إسرائيل إلى استدعاء سفيريهما لما اكتنزته تل أبيب من ثقة بموقف أوروبي داعمٍ أعمى. وهذا ما لم يحصل.
موقفا إسبانيا وبلجيكا دفعا إسرائيل إلى استدعاء سفيريهما لما اكتنزته تل أبيب من ثقة بموقف أوروبي داعمٍ أعمى. وهذا ما لم يحصل
للوهلة الأولى، بدا أنّ التضامن الأوروبي موحّد خلف تل أبيب. ومن خلال تبعية مطلقة للموقف الأميركي، بدا المشهد وكأنه حفلة مسابقاتٍ يحاول كلّ طرفٍ فيها أن يُسجّل الموقف الأكثر تضامناً والأشدّ تفهماً لكلّ العمليات التي قام ويقوم وسيقوم بها الجيش الإسرائيلي والأجهزة الأمنية الإسرائيلية مهما بلغت وحشيتها. وازدحم مطار بن غوريون بالوفود الأوروبية التي تهافتت للتعبير عن دعمها من رؤساء دول إلى رؤساء حكومات ومروراً برؤساء مجالس نواب من كلّ التيارات السياسية. وفي غمرة النفاق المتحمّس، لم يفطن هؤلاء إلى أنّهم التقطوا صوراً بلباس الحرب وفي مواقع الهجوم الإسرائيلي الدموي. وقد ساهمت هذه المواقف بنقل صورة الحليف الأعمى والأصمّ لآلة القتل الإسرائيلية بمعزل عن أي حساباتٍ لرأي عام عربي شعبي دوناً عن الساسة الحاكمين الذين اكتفوا بقمّة شكلية دانوا من خلالها العنف الإسرائيلي من دون اتخاذ أيّ إجراءٍ يُذكر.
وإذا كان القادة الغربيون يثقون بإمساك حلفائهم المستبدّين في دول الجنوب برقاب شعوبهم، إلا أن تفاقم الموت بأيدي الإسرائيليين بدأ بتحريك الشارعيْن، العربي والإسلامي، وحتى الأوروبي والأميركي، فبدأت الشروخ تظهر في بنيان التكاتف المطلق مع آلة العدوان عبر تصريحات بعض المسؤولين، ومن خلال اختلاف اللغة الإعلامية التي خرجت من قمقم سيطرة اليمين الإسرائيلي المتطرّف ولوبيّاته الفاعلة في الغرب، لتقترب نسبياً من مستوى متدنٍّ من الموضوعية، رغم الصعوبات البنيوية. وأُجبر المسؤولون الذين منعوا التظاهرات المؤيدة للشعب الفلسطيني على التراجع رويداً رويداً عن تعنّتهم أمام الخوف من انفجارٍ لا تُحمد عقباه.
بدأت الشروخ تظهر في بنيان التكاتف المطلق مع آلة العدوان عبر تصريحات بعض المسؤولين
انتقل الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، مثلاً، من الدعوة إلى تحالف دولي لمقاتلة "حماس"، للحديث عن تحالف دولي لمساعدة الفلسطينيين إنسانياً، وصولاً إلى دعوة صريحة لوقف إطلاق النار، مع إشارة واضحة إلى أن قوات الاحتلال تقتل الأطفال والنساء من دون تمييز. والمستشار الألماني، أولاف شولتز، بعد أن رفض وقف إطلاق النار، مفسحاً المجال أمام آلة القتل الإسرائيلية بانتزاع مزيد من أرواح الفلسطينيين، عاد عبر وزيرة خارجيته إلى التعبير عن قلقه من موت المدنيين من دون تمييز. وقد وصل الأمر بوزيرة الخارجية الفرنسية، كاترين كولونا، إلى إبداع عنوان سوريالي لمؤتمرها الصحافي أخيراً، عندما قالت: "إن التضامن يمكن أن يقع مع الفلسطينيين ومع الإسرائيليين في الآن ذاته". أي مع المعتدي والمعتَدى عليه (...). وقد جاء هذا البحث عن التوازن في الموقف مع ما يحمله من إشارة إلى الإنسان بمعزلٍ عن السياسيين والمتحكّمين بقراراتٍ تحمل في جنباتها الموت والدمار، بعد أسابيع من التحيّز الفاضح والواضح للجهاز العسكري والأمني الإسرائيلي بعيداً عن لعب أي دورٍ، اشتُبه تاريخياً في أنّ لفرنسا خصوصاً ولأوروبا عموماً أن تلعبه في إطار حلٍّ سلمي متوازن لقضيةٍ ساهم الغرب بصنعها. وبالتالي، هذه تطورات لافتة من المهم الإشارة إليها رغم حبوها الخجول نحو شيءٍ من العقلانية، ليس فرنسياً فحسب، بل غربياً بشكل عام.
رغم تأكيد جميع المسؤولين الإسرائيليين أن الهدنة الحالية لن تطول، وأنهم ماضون في حفلة القتل التي استساغوها بحقّ الشعب الفلسطيني، إلا أن التغير القائم، ولو بشكلٍ جزئي ومتردّد، في الموقف الغربي، وانتقاله من التضامن الأعمى والأصمّ عن المقتلة إلى موقفٍ صارت تدخل فيه حسابات الاستقرار الداخلي في الدول الغربية نفسها مع ازدياد التوتر القائم مع الرأي العام المحلي، وليس فقط المهاجر في مدنها، سيؤثر حتماً في تطورات الأيام المقبلة. كذلك إن وقع تصريحات العاملين الإنسانيين التي تشير بوضوح إلى ارتكاب قوات الاحتلال جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، يكاد تصنيفها دولياً يرقى إلى جرائم إبادة جماعية، سيدفع مزيداً من الجموع إلى التعبير عن غضبها في شوارع المدن الغربية، ما سيدفع الساسة إلى إعادة النظر في حساباتهم.
في ندوة جماهيرية، عاب أحد المتضامنين الغربيين على العرب والمسلمين ضعف تضامنهم العلني، فنبهته إلى أنّ الاستبداد المدعوم من "العالم الحر" يقمع التجمّعات، وأن عليه أن يجسّ نبض العالم الافتراضي لقياس المشاعر الحقيقية.