هل نشهد تحدّياً لتوظيف إسرائيل الهولوكوست؟

17 مارس 2024

المخرج البريطاني جوناثان جليزر يلقي كلمته في حفل توزيع جوائز أوسكار (10/3/2024 Getty)

+ الخط -

"نرفض توظيف (إسرائيل) يهوديّتنا والهولوكوست لتبرير الاحتلال"، المخرج البريطاني جوناثان غليزر في خطاب تسلّمه جائزه أوسكار (11/03/2024)

نزلت كلمات المخرج اليهودي جوناثان غليزر، نيابة عنه وعن فريق فيلمه "منطقة الاهتمام" ( The Zone of Interset)، الفائز بجائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي، كالصاعقة على قاعة الاحتفالات في هوليوود في لوس أنجلوس، لكن تأثيرها كان أشدّ حدّة على المنظمّات اليهودية المؤيّدة لإسرائيل في أميركا والعالم. استمرّ الجدل، وكذلك الإدانات التي انهالت عليه، خصوصاً أن قصة الفيلم مستوحاة من واقعة المحرقة اليهودية (الهولوكوست)، التي ارتكبتها ألمانيا النازية ضد يهود أوروبا، وتستخدمها إسرائيل منذ تأسيسها ليس لتبرير وجودها كياناً كولونيالياً فحسب، وإنما أيضاً للتغطية على جرائمها المستمرّة ضد الفلسطينيين.

منذ بدء حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على غزّة، برزت أصوات ناجية من الهولوكوست أو أبناء لهم تدين استغلال عذاب عائلاتهم أو قتلها في جريمةٍ ليس للفلسطينيين علاقة بها من قريب ولا من بعيد، بل اعتبرت أصوات يهودية مهمّة هذا التوظيف إهانة وتسخيفاَ لهم ولضحايا المحرقة. ولعل أهم الأصوات هو المفكر المجري الكندي وعالم النفس جابور ماتي، وهو نفسه أحد الناجين من الهولوكوست، ويدين في كل فرصة استعادتها لتبرير ما يحدث في غزّة. وهو متخصّص بعلاج الصدمات النفسية (التروما)، فلا يتوقف عن تذكير العالم بالآثار النفسية التي تتركها المجازر الإسرائيلية على أهل غزّة، وبخاصة الأطفال، فإنسانيته تمنعه من قبول هذا التوظيف للهولوكوست، بل ذهب إلى أبعد من ذلك؛ بإدانة أسس إقامة إسرائيل، ودعا إلى إعادة أرض فلسطين إلى أهلها؛ "نجوتُ من الهولوكوست، لأن أمّي أودعتني مع عائلة غير يهودية لتحميني، بينما اندثرت هي ومعظم أفراد عائلتنا، وكنتُ أؤمن بإقامة الدولة اليهودية، وحين اكتشفتُ الواقع على الأرض لم أستطع أن أبقى صهيونياً". هذا ما قاله ماتي، في مقابلة مع المذيع البريطاني بيرس مورغان، بعد شهر على عدوان إسرائيل على غزّة.

سبقت ماتي أصوات عديدة، من أبرزها المؤرّخ الإسرائيلي إسرائيل شاحاك الذي سخَّر وقته لتوثيق الجرائم الإسرائيلية يومياً حتى يوم مماته، ونورمان فينكلشتاين، وألّف كتاباً بعنوان "صناعة الهولوكوست"، فضح فيه كيف استغلّت شخصيات إسرائيلية ويهودية غربية مأساة الهولوكوست، لتبتز مصارف ألمانية وتستحوذ على ممتلكات ومقتنيات ثمينة تعود إلى ضحايا المحرقة للإثراء.

هابرماس بثقافته الواسعة غير مخدوع، لذا لا يمكن استبعاد أن موقفه قد يكشف عن العنصرية ضد العرب أو منبثق من رؤية استشراقية استعمارية

ما يهمّنا هنا عدة نقاط؛ أولاً: يجب أن نساهم نحن في فضح محاولة ربط أسباب إقامة إسرائيل بجريمة الهولوكوست، فالحركة الصهيونية بدأت رسمياً في إعلان مؤتمر بازل عام 1897، وإن سبق التخطيط ذلك، وأن هجرة اليهود من أوروبا مستوطنين في فلسطين بدأت في أوائل عشرينيات القرن الماضي. ثانياً: قدّمت الصهيونية السياسية حلّاً لما سمّيت "المسألة اليهودية" الناتجة عن العداء للسامية التي ترفض وجود اليهود في أوروبا، مفاده ضرورة تشكيل دولة يهودية، تم اقتراحها في الأرجنتين أو أوغندا في فترة، لكنها رست على فلسطين، نظراً إلى مكانتها الدينية، ولأنها تخدم أهداف المستعمر البريطاني حينها، وبعد ذلك الغرب بقيادة أميركا التي تبوّأت عرش تمثيل المصالح الإمبريالية بعد الحرب العالمية الثانية. المفارفة أن الحركة الصهيونية قدّمت حلّاً، لا يواجه المعاداة للسامية، بل يجاريها، فكما شرح مؤسّس الحركة الصهيونية، ثيودور هرتزل أن "إقامة دولة لليهود في فلسطين تُخرج اليهود من أوروبا" تحقيقاً لمطالب المعادين للسامية. ثالثاً: من الضرورة التذكير أن الحركة الصهيونية تعاونت مع ألمانيا النازية تعاوناً مباشراً وغير مباشر، بتوجيه هروب اليهود من المحرقة إلى أرض فلسطين، وليس إلى مكان آخر، بتقديمها الدعم والتسهيلات لمثل هذه الهجرة. رابعاً: يجب التحذير من محاولات مثقّفين عرب و"غير مثقفين" بإنكار حدوث المحرقة، ردّ فعل على إنشاء إسرائيل، فذلك يخدم أسطورة ضرورة إقامة إسرائيل على أرض فلسطين واقتلاع أهلها، هرباً من الهولوكوست وحماية لكل من هو يهودي الديانة.

ربما لسنا نشهد تغيّراً جذرياً في رفض توظيف إسرائيل الهولوكوست، ولكنها بداية عملية تغيير مهمة، أعطتها الحرب على غزّة زخماً غير مسبوق، فضروري جداً تفنيد أهم ركائز الحملة الدعائية لإسرائيل بتوظيف ذكرى الهولوكوست لإضفاء شرعيةٍ على حربها المستمرّة على الشعب الفلسطيني، ولكن يجب أن نكون على مستوى عال من الموضوعية والدقة، لأننا في حرب إعلامية وفكرية مع نظام كولونيالي عنصري يجيد تركيب سرديةٍ قوية، وإنّها وإن كانت مبنيةً على التضليل والأكاذيب، تؤثر على الغربيين الذين لم ينسوا الهولوكوست بصدق، وبخاصة في أوروبا وألمانيا، حيث إن هناك شعوراً عميقاً بالذنب تستغله إسرائيل واللوبيات الصهيونية. ولكن الشعور بالذنب حيال ماضي ألمانيا النازية لا يبرّر موقف مفكرين ألمان من إسرائيل، ولا يبرّر مواقف الحكومة الألمانية من الحركات المناصرة للفلسطينيين ومن القضية الفلسطينية، ومن حرب الإبادة على غزّة.

قد يكون بعض المثقفين الألمان يتحدّثون عن خوف، أو لافتقادهم الشجاعة الأخلاقية في نقد إسرائيل ليتجنبوا تهمة اللاسامية، لكن موقف المفكر الألماني، يورغن هابرماس، الداعم لإسرائيل وللحرب على غزّة كان له التأثير الأكبر، إذ تبنّى اثنان من كبار المثقفين الألمان موقفه؛ فقد روّج كذبة تهديد حركة حماس حياة اليهود بوصفهم يهوداً، ولوَصْم حركات التضامن مع الفلسطينيين وللحرب على غزّة بالعداء للسامية. وهابرماس بثقافته الواسعة غير مخدوع، لذا لا يمكن استبعاد أن موقفه قد يكشف عن العنصرية ضد العرب أو منبثق من رؤية استشراقية استعمارية، وهذه أفكارٌ ليست بعيدة عن جوهر العداء للسامية الذي يعتبر اليهود عنصراً دخيلاً على المجتمع الأوروبي كما يرى العنصريون الآن العرب والمسلمين دخلاء جُدداً على الثقافة الأوروبية الاستعلائية.

كسرت الحرب على غزّة محظور رفض استغلال إسرائيل الهولوكوست، وإنْ كان الثمن يدفعه أهل غزّة بأرواحهم ودمائهم

لقد دخلنا في طوْر حرب فكرية جديدة، طلائعها أصواتٌ شجاعةٌ تفنّد توظيف الهولوكوست في مواجهة أصوات تدافع عن الرواية الصهيونية، ويجب أن نسلّح أنفسنا ثقافياً لها. لذا؛ لموقف جابور ماتي أهميته، ولا سيما أن لهذا العالم تأثيره العميق في تطور علم النفس وعلاج "التروما"، خصوصاً أنه يتحدّث عن "التروما على غزّة" حتى في محاضراته المتخصّصة وأمام مئات المختصين، إضافة إلى ظهوره القوي في وسائل الإعلام، الأمر الذي يُحدِث فرقاً.

وفي هوليوود المخترقة من اللوبي الصهيوني الذي يمتلك نفوذاً قوياً أيضاً على مساحةٍ أقرب إلى الثقافة الشعبية، إذ يتابع حفلها السنوي الملايين في العالم، فتكتسب كلمات جوناثان جليزر أهمية بالغة، خصوصاً أن فيلمه الذي حائز الـ "أوسكار" يدرُس كيف يصبح إنسان عادي مجرماً سادياً في نظام مثل النازية، ونضيف أن ذلك ينطبق على الإنسان في أنظمة عنصرية مثل إسرائيل.

هي معركة فكرية أخلاقية، يتسلّح بها المجرم بذكرى جريمة سابقة، وقد كسرت الحرب على غزّة محظور رفض استغلال إسرائيل الهولوكوست، وإنْ كان الثمن يدفعه أهل غزّة بأرواحهم ودمائهم، فلا مغفرة لمن يُنكر أو يبرّر.

كاتبة وصحفية
كاتبة وصحفية
لميس أندوني
كاتبة وصحفية من الأردن
لميس أندوني