هل وجد عبّاس أجوبته؟
في كتابه "طريق أوسلو" (دار الشروق، عمّان، الطبعة الثالثة، 2020)، يتساءل الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، في أثناء رحلته في الطائرة التي أقلته إلى واشنطن يوم اﻷحد 12/9/1993 لتوقيع اتفاق إعلان المبادئ بين منظمة التحرير الفلسطينية وحكومة إسرائيل، والذي اشتهر باتفاق أوسلو، واستغرقت الرحلة عشر ساعات ونصف الساعة، خلا في معظمها إلى نفسه، يراجع ما قدمه خلال مسيرته الطويلة، يتساءل: "هل هي رحلة العودة إلى الوطن، أم هي رحلة التوقيع على التنازل عن جزء كبير من الوطن؟"، و"هل ما سنقوم به سيفتح الباب أمام المستقبل، أم يقفل الطريق إليه؟"، و"هل فرّطنا بحقوق الشعب أم حافظنا على هذه الحقوق؟"، موضحاً أنّ المخاطر "قد تكون أكثر من المكاسب؟"، ومتسائلاً: "ماذا سيكتب عنا التاريخ؟"
تمتد صفحات الكتاب إلى 500 صفحة، وقد صدرت طبعته الأولى عام 1994 في بيروت، عن شركة المطبوعات اللبنانية، أي بعد أشهر قليلة من توقيع الاتفاق. ولعلّ بعض فصوله كُتبت خلال مراحل المفاوضات المختلفة، ذاكرًا تفاصيل الاتصال مع الشخصيات والأحزاب اليهودية بمختلف اتجاهاتها، مشيرًا إلى وسطاء من صحافيين وشخصيات فلسطينية ويهود أميركيين، ومبادرات مصرية وأميركية، ومرورًا بمباحثات مدريد وواشنطن، ومشاركة الوفد الفلسطيني بمظلّة أردنية، وانتهاءً بالذهاب إلى قناة أوسلو السرّية التي يسهب في تفصيل حواراتها، والتي لم تتطرّق إلى موضوع الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال بكلمةٍ على مدى جولاتها الاثنتي عشرة من 20/1/1993، والمنتهية في 14/8/1993، لتُحسم بعد ذلك بثلاثة أيام المواضيع المعلّقة "في سبع ساعات من الحوار عبر الهاتف، وضعت حداً لصراع القرن العشرين... وحدّدت معالم مستقبل المنطقة"، على حد زعم محمود عبّاس. سبع ساعات أُجريت فيها عشر مكالمات هاتفية ما بين أوسلو التي تحدث منها وزير الخارجية النرويجي جوهان هولست وإلى جانبه شيمون بيريز يملي عليه ما يقول، وتونس التي كان يتحدّث منها أحمد قريع (أبو علاء) وإلى جانبه ياسر عرفات وأبو مازن وحسن عصفور وياسر عبد ربه. وامتدّت المكالمات من العاشرة مساء حتى الخامسة صباحاً. وبعد ذلك بثلاثة أيام أخرى، وقّع على وثيقة إعلان المبادئ في أوسلو بالأحرف الأولى كلٌّ من أبو علاء وحسن عصفور وأوري سافير ويوئيل زينغر.
اللافت في الحوارات مع الإسرائيليين قبل مرحلة أوسلو أنّها شملت الطيف الصهيوني كلّه
اللافت في الحوارات مع الإسرائيليين قبل مرحلة أوسلو أنّها شملت الطيف الصهيوني كلّه، فثمّة قناة مفتوحة مع حزب العمل عبر وسطاء مثل أحمد الطيبي وسعيد كنعان وعبد الوهاب الدراوشة، وشملت الاتصالات إسحق رابين وحاييم رامون وعيزر وايزمان. ويقول محمود عبّاس عن خطة رابين التي حملها إلى تونس الدراوشة في إبريل/ نيسان 1989 إنها "لا تختلف في كثير من أفكارها عما تم التوصل إليه في أوسلو، كما أنها لا تختلف عن رسالة التطمينات الأمريكية". وهي خطة من مرحلتين: انتقالية مدتها خمسة أعوام "يقيم فيها الفلسطينيون مجلس سلطة محليا، مع مكاتب حكومية تتناول: الشؤون الداخلية، الإسكان، الزراعة، البريد، المالية، الصحة، البلديات، وغيرها من الشؤون الداخلية"؛ ومرحلة الحل الدائم التي تبدأ المفاوضات حولها بعد ثلاثة أعوام. وكذلك جرت اتصالات مع الليكود، لعل أهمها ما عُرف بلقاء موشيه عميراف مع سرّي نسيبة، وانضم إليها في أربعة اجتماعات لاحقة فيصل الحسيني، وأسفرت عن وثيقة شبيهة بخطة رابين في الكثير من تفاصيلها، يصفها محمود عباس بأنّها "أشبه باتفاقية سلام حقيقية". لكن إسحق شامير سرعان ما تنصّل منها.
ما لم يذكره محمود عبّاس أنّ مجمل هذه الخطط والمقترحات، وصولًا إلى "أوسلو"، تتماثل أيضًا، أو تكاد، مع ما جاء في اتفاقيات كامب ديفيد بين الرئيس المصري أنور السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن، ولعل هذا التماثل يفسّر معرفة المسؤولين في مصر بسير مباحثات أوسلو، وإيفاد الخبير القانوني المصري، طاهر شاش، في مهمة سرّية إلى أوسلو لتدقيق الصيغة القانونية لمسودة إعلان المبادئ. ولافت أيضاً أنّ الغائبين الأبرزين عن طريق أوسلو الذي خصّص محمود عبّاس فصلاً كاملاً للحديث عن سرّية مساره، كانا الأردن والولايات المتحدة. يضاف إليهما قيادات الفصائل الفلسطينية، بمن فيهم أعضاء المؤسسات القيادية في حركة فتح ومنظمة التحرير.
جميع القضايا التي يُفترض بها أن ترد ضمن مرحلة الحكم الذاتي المحدود، أُحيلت إلى مفاوضاتٍ لاحقة استمرّت أعوامًا ولم يحسم أغلبها
لا يهدف هذه المقال إلى عرض تفاصيل المباحثات ومسار التسوية وقرارات (تنازلات) منظمة التحرير التي واكبت هذا المسار منذ بدايته، وهي تفاصيل عالجها الكتاب بإسهاب ملحوظ، وإنما أن يشير إلى حالة القلق والتساؤل وعدم اليقين حول مستقبل هذا الاتفاق، ورأي الجمهور به، وحكمه عليه، فثمّة أسئلة ظلت حاضرة في كتابات عبّاس، مثل "كيف يمكن استكمال الإنجاز السياسي الفلسطيني ونقله إلى استقلال فعلي؟"، وسؤال آخر "حول إمكانية نجاة الاقتصاد الفلسطيني من فخّ التبعية للاقتصاد الإسرائيلي"، وهو سؤالٌ يُعفي الرئيس محمود عبّاس من الإجابة عنه، إذ أجابت عنه اتفاقية باريس التي رسّخت هذه التبعية، وأصبح إلغاء هذه الاتفاقية أحد المقرّرات الدائمة للمجلس المركزي المحفوظة في الأدراج، وهي تبعية يستخدمها العدو كل يوم في إطار سياسة العصا والجزرة.
يؤكّد محمود عبّاس أنّ فكرة الاتفاق قامت على أساس مرحلتين؛ انتقالية ونهائية. وفي المرحلة النهائية التي يُفترض بها أن تبدأ بين ثلاثة وخمسة أعوام من تاريخ توقيع إعلان المبادئ "سوف تُبحث القضايا المتبقية، بما فيها القدس، اللاجئون، المستوطنات، الترتيبات الأمنية، الحدود، العلاقات والتعاون مع جيران آخرين، والمسائل الأخرى ذات الاهتمام المشترك". لم يكن عبّاس يتوهم "أنّ التوقيع الذي سنقوم به ينهي كل شيء، بل (كان) على يقين أنه بداية لأشياء، وخاصة أن الاتفاق لم يحسم قضايا كثيرة، ولم يوضح نقاطًا كثيرة تحتاج إلى عمل شاق ودؤوب". لكن المشكلة على ما يبدو لم تكن فقط في القضايا الشائكة التي هرب الطرفان من بحثها كي لا تُنسف المفاوضات منذ بدايتها، بل كانت أيضًا في آليات وجود السلطة الفلسطينية ذاتها التي خضعت لمفاوضاتٍ لاحقة، إذ نجد جميع القضايا التي يُفترض بها أن ترد ضمن مرحلة الحكم الذاتي المحدود، مثل المياه والتنقل والبيئة والكهرباء والميناء والاقتصاد والمعابر والتعليم، أُحيلت إلى مفاوضاتٍ لاحقة استمرّت أعوامًا ولم يحسم أغلبها.
من يمثّل فلسطين أمر لا ينبغي لإسرائيل أن تقرّره، أما المفاوضات فحدّث عنها ولا حرج، وقد كانت وما زالت حبلاً من مسد
عمليًا، لم يتبقَّ من هذه التفاهمات والاتفاقات شيء، باستثناء تلك الرسائل المتبادلة بين ياسر عرفات وإسحق رابين في 9/9/1993، حيث "تعترف منظمة التحرير الفلسطينية بحق دولة إسرائيل في أن توجد بسلام وأمان"، والاعتراف بإسرائيل هنا لم يكن باعتبارها أمرًا واقعًا، وإنما هو اعتراف بحقها في أن توجد، في حين لم تعترف حكومة إسرائيل بأيٍّ من الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، واكتفت بالاعتراف "بمنظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الممثل للشعب الفلسطيني، وأن تشرع في المفاوضات مع منظمة التحرير". والحقيقة أنّ من يمثّل فلسطين أمر لا ينبغي لإسرائيل أن تقرّره، أما المفاوضات فحدّث عنها ولا حرج، وقد كانت وما زالت حبلاً من مسد.
يخلص محمود عبّاس في كتابه إلى استنتاجين: أنّه قام "بعمل تاريخي وبإنجاز عظيم"، وخوفه "من أن تدمر الممارسات الخاطئة والعقليات المتخلفة من كلا الطرفين هذا الإنجاز". ولهذا انتابه "شعور متناقض، فبمقدار اهتمامي بالإنجاز، كان خوفي ورهبتي من التطبيق". وفي التطبيق، يقترح "بناء علاقات مع دولة إسرائيل، قائمة على الثقة المتبادلة، حتى يطمئن الإسرائيليون إلى هذا الجار الجديد والعدو القديم، ومدى قدرته على التحوّل من العداء إلى التطبيع". ولعلّ هذه العبارة تفسّر بوضوح سياسات الرئيس والسلطة الفلسطينية التي لا تتوقف عن إثبات حسن النية تجاه الجار اليهودي.
.. عندما تسلّم محمود عبّاس مسؤولية التعبئة والتنظيم في حركة فتح، بداية عام 1970، لاحظ ضعفاً شديداً في أدبيات الحركة عن إسرائيل والصهيونية، فاهتم بهذا الموضوع، كما يقول في كتابه. أما اليوم، وبعد أكثر من 28 عاماً على صدور هذا الكتاب، وأكثر من نصف قرن على انغماسه بمسار التسوية ودعوته الفلسطينيين إلى أن يمدّوا أيديهم إلى عدوهم، يظل السؤالان قائمين: هل وجد الرئيس محمود عبّاس أجوبة عن الأسئلة والمخاوف التي طرحها في بداية هذا المسار الطويل؟ وهل أصبحنا أكثر معرفة بالصهيونية أم أشدّ جهلاً بها؟ يبدو أنّ الأجوبة قد فرضت نفسها عبر التجربة المريرة التي استحالت واقعًا لن يُدحض إلّا عبر صمود الشعب الفلسطيني، في حين ما زال الرئيس غارقاً في أوهامٍ خلت.