هل يؤنسن فريق بايدن النسائي السياسة الأميركية؟
يتميز فريق الرئيس الأميركي المنتخب، جو بايدن، بعدد غير مسبوق من النساء ومن الإثنيات أو المجموعات العرقية المهمّشة تاريخيا في النظام والمجتمع الأميركيين، وهي سابقةٌ تسجل له، وتطور لافت، فقد اقتصرت أول حكومة أميركية على الرجال البيض الذين ثَبَتوا تفوق الرجل الأوروبي الأبيض على مفاتيح السلطة منذ تأسيس الولايات المتحدة الأميركية. الصورة مع فريق بايدن تختلف، بشكل كبير على الأقل شكلياً. ولكن، هل تعني التخلي عن سياسة الهيمنة والحروب الخارجية، بداية مرحلة من إنهاء التمييز والعنصرية والظلم الاجتماعي في الداخل الأميركي؟
ما يحدث مهم، ولكن يجب فهمه في سياقه، ومن دون تهويل أو تعظيم، فنحن لا نشهد ثورة أو تغيرا جذريا في النظام الأميركي، على الرغم من أن التعدّدية غير المسبوقة في طاقم الحكومة والكادر القيادي في البيت الأبيض سيكون له تأثيره، ولكن لن يقود أي عملية تغيير اجتماعية أو سياسية في أميركا، فالهدف إنقاذ "السيستم" الأميركي، وليس تغييره، فالتعيينات وشكلها هي محاولة لرأب صدعٍ كبير أحدثه الرئيس دونالد ترامب، بعنصريته الفاقعة وتعبيراته الذكورية الشوفينية في المجتمع الأميركي. ومما يفيد بايدن تسويق نفسه رئيسا لكل فئات المواطنين الأميركيين العرقية والإثنية والدينية والجنسوية، وهو مفيدٌ، إلى حد ما، في تعديل الصورة النمطية للفئات المهمّشة، لكنه لن ينهي العنصرية التي كانت سببا في قتل عناصر من الشرطة مواطنين أميركيين سودا، امام الكاميرات وخلفها، وإن كان ينهي تحريض البيت الأبيض التيار اليميني المتطرّف وتشجيعه.
سيحاول بايدن أن يظهر وجها لأميركا أكثر "رحمة ورقّة" من خطاب ترامب الفظّ الذي يجاهر بشرائه زعماء الدول وإيمانه في تركيع الشعوب
الهدف الآخر لبايدن مواجهة تيار داخل الحزب الجمهوري، مؤيد للترامبية بتجلياتها العنصرية واحتقارها ضحايا العنف الداخلي، وحول العالم، بكل صراحة وصفاقة، ولكن الهدف الأبعد هو احتواء الحركات الشعبية التقدّمية التي برزت، أو ازدادت قوة، في مواجهة ترامب التيار الفاشي المتنامي، فلا بايدن، ولا قيادة الحزب الديمقراطي، على استعداد للتخلّي عن أسس الهيمنة الخارجية، ولن يدعو إلى العدالة الاجتماعية، أو يؤيد أيا من سياساتها، وفي مقدمتها توفير تأمين صحي للجميع، خصوصا في مواجهة تداعيات جائحة كورونا، فهذا يتعارض جذريا مع السياسات الرأسمالية وجماعات الضغط الرئيسة من الصناعات العسكرية والأدوية وشركات التأمين.
سيحاول بايدن أن يظهر وجها لأميركا أكثر "رحمة ورقّة" من خطاب ترامب الفظّ الذي يجاهر بشرائه زعماء الدول وإيمانه في تركيع الشعوب، وبكراهيته لما لا يشبهه تماما، لا أن يكون أبيض ورأسماليا، فهو لا يحترم ذرف الدموع الليبرالية بين مؤيدي الرأسمالية، أي أن ترامب أسقط كل أقنعة التظاهر، وكشف وجه الهيمنة القبيح، فأحرج المؤسسة الأميركية برمتها. لكنه أيضا أخذ يقود الولايات المتحدة إلى تطرّف غير مسبوق، استدعى تحالفاتٍ بين حركات شعبية وأجنحة الحزب الديمقراطي المتصارعة لمواجهة المد الفاشي، ولكن ليس ممكنا الحفاظ على هذه التحالفات، إذ لن تتغير قيادة الحزب الديمقراطي وتوجهاتها. ولذا سنرى أن تركيبة الإدارة التي تشمل نساء كثيرات من إثنيات وأعراق مختلفة، هي محاباة وقتية للتيارات التقدّمية، سعياً إلى احتوائها وتفكيكها.
تعيين أول امرأة من السكان الأصليين، عضو الكونغرس ديب هالاند، وزيرة للشؤون الداخلية، خرق تاريخي له وقعه على كثيرين من السكان الأصليين
قد نجد هدوءا الآن من بعض أركان "حركة حياة السود مهمة"، ومن السيناتور الديمقراطي، بيرني ساندرز، لكن قيادة الحزب الديمقراطي ستحارب تلك التركيبة والنساء فيها، وتحاول تحجيمها، وكذا تهميش عضوات الكونغرس المتمرّدات واللواتي فزن مرة ثانية، مثل رشيدة طليب وألكساندرا كورتيز وإلهام عمر، بين أخريات، فتعيين نساء في مناصب حكومية لا يعني تماهيهن مع نساء الحركات الشعبية التقدّمية. على سبيل المثال، المرشحة لتمثيل أميركا في الأمم المتحدة، ليندا توماس -غرينفيلد، وهي من أصول أفريقية، لم تتحدّ سياسات أميركا الخارجية في أي وقت. ووزيرة الخزانة الأميركية، جانيت آلان، وهو منصبٌ لم تصل إليه امرأة من قبل، فهي من صلب مطبخ السياسات المالية الرسمية، ولم تأتِ من مدرسة اقتصادية نقدية، لكن تعيين إفريل هاينز على رأس المخابرات القومية هو الأكثر وضوحا في توجه بايدن، إذ إنه تكملة لنهج التعذيب في الاستخبارات الأميركية. وهذه المرأة متورّطة في تنفيذ الاعتداءات بطائرات الدرونز، لاصطياد المطلوبين لوكالة الاستخبارات الأميركية، وقتلت أطفالا ونساء ورجالا أبرياء عديدين في أفغانستان وباكستان واليمن والصومال، في عهد الرئيس باراك أوباما، وحدث مرة أن طائرة درون أميركية استهدفت مشاركين في موكب حفل زفاف في بلدة في محافظة البيضاء في اليمن، وقتلت 15 منهم، بعد التقاط الطائرة صورة لأحدهم بقامة أسامة بن لادن، فقلبت الفرح إلى مأتم. وبذلك تكون غفريل هاينز متورّطة، بكيفية معينة، في الاغتيالات غير القانونية والتعذيب، بصفتها السابقة نائبا لمدير الاستخبارات الأميركية ومساعدة لمستشار الأمن القومي.
لا نلغي أهمية تعيين أول امرأة من السكان الأصليين، عضو الكونغرس ديب هالاند، وزيرة للشؤون الداخلية، وهو خرق تاريخي له وقعه على كثيرين من السكان الأصليين الذين بنيت أميركا الحديثة على أشلاء أجدادهم، وعلى نهب أراضيهم ومرادهم. وهالاند معروفة بدفاعها عن حماية البيئة ومحاربة التلوث، لكن تعيينها في هذا المنصب الوزاري الرفيع، على أهميته المعنوية، عند قطاعات أميركية أيضا، لا يرقى إلى أن يكون اعترافا بخطيئة المستعمرين البيض الأصلية، ولا يعيد إليهم حقوقهم. وإن تعيينا لامرأة من أكثر الفئات مظلومية لا يعدّل في أحوال هذه الفئات، وإنما قد يعني أمرا ملهما فرديا لفتيات من السكان الأصليين في الولايات المتحدة في الصعود إلى مناصب عالية، لكنّ أمرا كهذا يبقى إنجازا فرديا، لا يُحدث، في المدى المنظور، وحتى البعيد، تغييرات جذرية في أوضاع السكان الأصليين الذين لا يزالون يطالبون بحصصهم في الموارد، وفقا لاتفاقيات "سلام" خادعة، حرمتهم من حقوقهم ورهنتهم لفتات السلطة الأميركية المتنفذة.
ربط حقوق المرأة بسياق تحرّري اجتماعي وطني هو الطريق، وغيره ليس أكثر من مزيد من الارتهان لأجندة أميركية
نجح بايدن، ونائبته كاميلا هاريس، وهي نفسها لم تعارض يوما السياسة الأميركية، إلى حد بعيد، في تسويق صورة مختلفة شكلا، وأعطت انطباعاً بأنها تدعم تطوير قوانين مدنية مهمة، لكن ذلك غير مؤكد في الحسابات السياسية لنظامٍ لم يتغير جوهره، لكنه يقدّم وهماً أكثر منه أملاً لبقية الأميركيين بإصلاحاتٍ تخفّف من عبء الظلم الواقع عليهم.
ستتطلع نساء كثيرات في العالم إلى حدوث تقدّم في حقوق النساء، وإلى أن يستجد، في مرحلة بايدن في الولايات المتحدة، وجود فرق على هذا المستوى بشأن أوضاع النساء في العالم، وفي أميركا نفسها. ولكن من الخطأ بيع الأوهام عن ثورة نسائية، أو حتى حركة نسائية، فسياسات الدعم الأميركي للمنظمات النسائية لم تخرج عن إطار الأهداف السياسية والاقتصادية الأميركية، فبرنامج دعم النساء الأهم بدأته ليز تشيني، ابنة أحد أهم مهندسي غزو العراق، ديك تشيني، مباشرة بعد الاحتلال الأميركي لبلاد بين النهرين "لكسب قلوب العرب وعقولهم" المصدومين والمفجوعين.
يجب أن لا تقع حركات النسائية العربية في هذا الوهم، فربط حقوق المرأة بسياق تحرّري اجتماعي وطني هو الطريق، وغيره ليس أكثر من مزيد من الارتهان لأجندة أميركية لم تتغير.