هل يتفكّك العقد الاجتماعي بين إسرائيل ومواطنيها؟
تثير قضية الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة الفلسطينية في غزّة أسئلة كثيرة في الداخل الصهيوني، لعل أحد أهمها، في ظل إهمال الدولة وتراخيها في تحرير أسراها، بالقوة أو عبر صفقة تعقدها مع المقاومة: هل حقاً تهتم الدولة بحماية مواطنيها؟ ويرتبط سبب طرح السؤال بالعقد الاجتماعي، غير المكتوب، الذي نشأ مع نشأة فكرة الدولة، والتي كان أهم أسباب نشأتها، طبقاً لما حدّده توماس هوبز، تحقيق الحماية والرضا للأفراد. ومن هنا يكون مستوى تقصير الدولة أو إهمالها مرتبطاً بأدائها هذه المسؤولية، وتكون الثورات أو الاحتجاجات نتيجة طبيعية لما يحدُث من خلل أو تقصير منها.
حين ننظر إلى الحالة الإسرائيلية نجد هذا الخلل قد برز أخيراً بشكلٍ لم يحدُث له مثيل منذ نشأة الكيان، فخلال الخمسة أشهر الماضية لم تتمكّن الدولة من حماية مواطنيها؛ مرّة حينما فشلت أجهزتها في توقّع عملية طوفان الأقصى، ومرّة حينما فشلت في إعادة مستوطني غلاف غزّة وشمال فلسطين إلى مستوطناتهم، وأخرى عندما أهملت تحرير أسراها، بل ربما سعت إلى التخلّص منهم عبر تطبيقها بروتوكول حنيبعل، وهذا يفكّك فكرة العقد الاجتماعي بين الدولة متمثلة في الحكومة والجيش والأفراد الذين يُفترض أن ترعاهم وتحميهم.
في هذا السياق، نعود إلى السؤال ما إذا كان الكيان الصهيوني يهتم بأسراه حقاً، ويرغب في استعادتهم أحياء؟ وهو سؤالٌ ليس موجّهاً إلينا، فالجماهير العربية كلها، من منها في صف المقاومة، أو ضدّها، تعرف أن هذا آخر ما يهم القيادة الإسرائيلية الحالية .. لكن السؤال توجّهه الصحافية في يديعوت أحرونوت، سيما كدمون، في مقال نشر 20 الشهر الماضي (فبراير/ شباط). وعلى الرغم أن أكثر الجماهير في الكيان الصهيوني يدرك أيضاً أن أكثر ما يهم نتنياهو والقادة الحاليين هو البقاء في السلطة، فإن المقال جاء متوافقاً مع رسالة المقاومة تماماً، حين صوّرت ملفّ الأسرى وقد ألقي في سلّة قمامة رئيس الحكومة. وينطلق مقال كدمون من حقيقة أن الدولة لم تلتزم منذ أكتوبر/ تشرين الأول الماضي الاتفاقَ الذي عقدته مع مواطنيها، وأن أحداً لم يكن يتوقّع، أو يمكن أن يصدّق عدم عودة الأسرى، الذين أُخذوا من أسرّتهم في مستوطنات غلاف غزّة إلى بيوتهم حتى نهاية فبراير.
في حرب 1973؛ مكث الأسرى الإسرائيليون في مصر في الأسر أقلّ من ستة أسابيع، بينما عاد الأسرى من سورية بعد تسعة أشهر من نهاية الحرب
ويقارن الإسرائيليون بين وضع ملفّ أسرى عملية طوفان الأقصى وملفّات الأسرى في حرب 1973؛ ففي الملفّ القديم بدأت عملية استعادة الأسرى الإسرائيليين من مصر بعد الحرب في 15 نوفمبر/ تشرين الثاني من عام الحرب نفسه، أي إنهم مكثوا في الأسر أقلّ من ستة أسابيع، بينما عاد الأسرى من سورية بعد تسعة أشهر من نهاية الحرب. لكن وتيرة المفاوضات الحالية، وما يقوم به نتنياهو وحكومته من مماطلة، وإصرار على عدم وقف الحرب، تجعل عملية تحرير أسرى الكيان في غزّة، وقد شارفوا على نهاية شهرهم الخامس، أقرب إلى الحالة السورية منها إلى المصرية، ورغم ما يمثله ذلك من قلق، فإن ما يثير القلق أكثر أن الدولة حالياً تبدو غير عابئة، ولا شعور لديها بالالتزام تجاه أسراها على خلاف ما كان عليه الوضع بعد حرب أكتوبر (1973).
كانت قناة (كان) الصهيونية أذاعت في سبتمبر/ أيلول الماضي، أي قبل طوفان الأقصى بأيام، برنامجاً وثائقياً بمناسبة الذكرى الخمسين لحرب أكتوبر، حمل اسم "الواحدة"، وهو الاسم الذي كان يطلق على السرب 201 في سلاح الجو الإسرائيلي. وفي إحدى حلقاته الأربع، تحدّث الطيار الإسرائيلي مائير شاني عن وقوعه في الأسر في سورية، وكيف أنه مع الأسرى الآخرين "تحمّلوا كل أساليب الحرب النفسية حينما كان آسِروهم يخبرونهم أن إسرائيل لم تعد موجودة، ولم يعد هناك مكان يذهبون إليه، وهناك أيضاً كان هو وغيره من الأسرى يسمعون أصوات الانفجارات التي تُحدثها المقاتلات الإسرائيلية، كما تحمّلوا الظروف الصعبة والتعذيب، بحسب قوله، لأنهم كانوا يعلمون أن الدولة تقف وراءهم، وكانوا على يقين أن هناك من سينقذهم. ولهذا ظلوا مؤمنين وواثقين أن إسرائيل لن تتخلّى عنهم". والمفارقة هنا أننا لو قورنت هذه المشاعر القديمة التي تحدّث عنها شاني بما يمكن أن تكون عليه مشاعر الأسرى الحاليين أو عائلاتهم نجد تبايناً كبيراً.
الجميع يعلم أن ما يبحث عنه نتنياهو، ليس انتصار إسرائيل، بل انتصاره الشخصي
يظهر هذا التباين في قمع مظاهرات عائلات الأسرى، وسحْلهم أحياناً، حتى وصل بهم الأمر في لقاء مع عضو مجلس الحرب، وزير الأمن السابق، بيني غانتس، إلى مطالبته بتوفير الحماية لهم من عملية إثارة الشارع ضدّهم، ومما تفعله الشرطة والأجهزة التي تأتمر بأوامر وزير الأمن بن غفير، أي إنهم يرون أن الدولة نفسها التي ارتبطت معهم بعقد اجتماعي، قد أصبحت طرفاً معادياً لا يمكن الاطمئنان إليه؛ لا على أنفسهم، ولا على أبنائهم الذين يُفترض أن تسارع في تحريرهم. وإذا أضفنا إلى ذلك ما شهده العام الماضي من حالة انقسام مجتمعي وسياسي نتيجة حزمة القوانين التي أرادت الحكومة تمريرها لمصالح خاصة، فإن من الممكن أن نتخيل أن الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة أنفسهم ربما لم تعُد لديهم قناعة بأن دولتهم سوف تُنقذهم، لأنهم ببساطة يعرفون السياسيين المتصدّرين للمشهد في إسرائيل. وفي ظني أنه لا اختلاف هنا بين الحكومة بتشكيلتها اليمينية المتطرفة والمسيحانية، وتتحرك من منطلق الخلاص الأخروي، والمعارضة التي يساند قادتُها خيار استمرار الحرب، رغم أنه أول شروط المقاومة التي لا يتصوّر عاقل أن تتنازل عنه. وهكذا تبدو كل القوى السياسية الإسرائيلية، حكومة ومعارضة، وكأنها اتفقت ضمناً على التخلي عن الأسرى.
والحقيقة أن قيادة الكيان الصهيوني تحاول تصوير نفسها كمن يحاول استعادة هيبة الدولة المفقودة على حساب أسراها، لكنها، وهي تقوم بهذه المحاولة، لم تنتبه إلى أن الدولة ما هي إلا مجموع الأفراد الذين يعيشون فيها، ويدافعون عنها، وأنها حين تتخلّى عنهم، وتثير قطاعاً من الشعب ضدهم، تهدم الفكرة التي نشأت من أجلها، وتقضي على العقد الاجتماعي بينها وبين مواطنيها، خصوصاً أنهم يعلمون جيداً بأنهم ليسوا في حسابات القادة الذين يهتمون بمصالحهم قبل أي مصلحة، وفي سبيل ذلك يعملون على إطالة الحرب، لمنع ما يتوقع أن يحصل بعدها من مظاهرات، واحتجاجات، ولجان تحقيق، وانتخابات.
يتنامى الشعور بتخلي الدولة عن أبنائها أكثر من مرّة، وهذا في حد ذاته يضرب أصل المشروع الصهيوني
وإذا كان نتنياهو يكرّر، في كل مناسبة، كلمتيه الشهيرتين "الانتصار الحاسم" كلما تحدّث عن الحرب الحالية، وقد استولى عليهما من قاموس الرئيس الأميركي الأسبق، هاري ترومان، صاحب قرار إلقاء القنبلتين الذريتين على هيروشيما وناغازاكي، فإن الجميع يعلم أن ما يبحث عنه نتنياهو، ليس انتصار إسرائيل، بل انتصاره الشخصي. في هذا السياق، يسخر ليئور شلاين، وهو أحد أشهر مقدّمي البرامج الساخرة على "يوتيوب"، من عبارة نتنياهو المتكرّرة "الانتصار الحاسم"، ويعتبر أن "ما يقوم به نتنياهو وعود فارغة، وأنه طالما أطلق شعاراتٍ ووعوداً لا ينفّذها، وسيدرك الناس قريباً أنه لن يحقّق ما يعِد به، ولن يكون هناك انتصارٌ حاسم للجيش الإسرائيلي، وأن الانتصار الحاسم لنتنياهو إغلاق ملفّاته المفتوحة، وتأجيل الانتخابات، وبقاؤه في السلطة". كرّرت هذا المعنى نفسه كدمون حين كتبت في نهاية مقالها "جميعنا يعلم أنه لم يكن ولن يكون هناك انتصار حاسم، بل لن يكون هناك انتصار أصلاً؛ والنصر الحاسم لنتنياهو بقاؤه على مقعد رئاسة الحكومة".
ما يحدُث ليس نهاية الكيان الصهيوني بالتأكيد، لكنه لبنة في جدار تفكّك ذلك العقد الذي تأسّس مع قيام إسرائيل بين الدولة ومواطنيها، وسيكون لهذه اللبنة ما بعدها، خصوصاً مع تنامي الشعور بتخلي الدولة عن أبنائها أكثر من مرّة، وهذا في حد ذاته يضرب أصل المشروع الصهيوني، ولن يختلف الأمر كثيراً في المستقبل، مهما تغيّرت الحكومات، لأن جدار الثقة بين الفرد والدولة قد تصدّع، ولن تكون هناك أي ضمانة مستقبلية في عودة هذه الثقة.
هنا تحديداً ندرك قيمة ما فعلته المقاومة على المستوى الاستراتيجي مستقبلاً، ومدى أهمية ملفّ الأسرى، وأن كل يوم يمرّ من دون تحريرهم مع تخلّي دولتهم عنهم يعني مزيداً من التصدّع والتآكل لذلك الميثاق غير المكتوب الذي التزمت فيه دولة الكيان تجاه مواطنيها .. في الوقت الذي تقدّم فيه المقاومة، وشعبها من ورائها، تضحيات إعجازية مهولة لتحرير الأسرى الفلسطينيين، وهذا يعني أن المقاومة وشعبها أصبحوا أحرص على أسراهم، وكأنهم يؤسّسون لعقد اجتماعي جديد.