هل يشفى الإسرائيليون من النرجسية الجمعيّة؟
رغم أن الحرب التي تشنّها إسرائيل على قطاع غزة تقترب من شهرها الثالث، ورغم التوغّل البرّي لجيش الاحتلال فيه، ورغم حملات التطهير العرقي والإبادة الجماعية ضد أهلنا في غزّة والمحاولات الحثيثة للتهجير القسري، فإن من يصارع من أجل البقاء هو المجتمع الإسرائيلي. ذلك أن منسوب الكراهية يرتفع داخله ضد سكان غزّة ومقاومتهم الفلسطينية الباسلة، حيث أشارت الاستطلاعات إلى بلوغها مستوياتٍ غير مسبوقة شكّلت 96% من المجتمع الإسرائيلي الذي انقسم على نفسه أشهرا عديدة، إثر محاولة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو التقليص من صلاحيات المحكمة العليا، وقام بمظاهرات ضخمة ضد مشروع الانقلاب القضائي، تكتّل اليوم ضد الفلسطينيين. إذ بالكاد تجد أصواتا إسرائيلية تعارض هذه الحرب، أو أقله تطالب مجلس الحرب بالكفّ عن ارتكاب المجازر والإبادة الجماعية بحقّ الشعب الفلسطيني في غزّة التي تسببت بسفك دماء أكثر من عشرين ألف شهيد، غالبيتهم من النساء والأطفال والمسنين، وإصابات بعشرات الآلاف وأكثر من ثمانية آلاف مفقود تحت الأنقاض، فضلا عن تدمير أكثر من 70% من المباني والمنازل والممتلكات والبنى التحتية تحت أنظار العالم وكاميراته، بما فيه أنظار المجتمع الإسرائيلي.
ويفسّر تصاعد منسوب الكراهية للشعب الفلسطيني في هذا المجتمع سببان رئيسيان: الخوف، وكسر النرجسية الجمعية التي عبّرت عن نفسها بغطرسة القوة في مواجهة أي تهديدٍ تماهت فيه هذه النرجسية مع تصريحات قادتها النرجسيين، في مقدّمتهم بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت، ومن ثم جنرالات مجلس الحرب بعد عملية طوفان الأقصى التي مرّغت أنوفهم في التراب، وكسرت أسطورة "الجيش الذي لا يُقهر". ومع تعاظم الغطرسة بعد سيطرة اليمين الديني الصهيوني المتطرّف (بن غفير) واليمين القومي الصهيوني المتطرّف (سموتريتش) على الحكم بالشراكة مع نتنياهو نتيجة الانتخابات قبل عام، انقضّ جيش الاحتلال والمستوطنون على إثرها على الفلسطينيين في الضفة الغربية في انتهاكات يومية وتقتيلٍ غير مسبوق قبل حرب غزّة وعملية طوفان الأقصى، وقبل الانقلاب على المحكمة العليا الإسرائيلية. ووفقا للفيلسوف الإنساني وعالم النفس الاجتماعي الأميركي، إيريك فروم (من أصل يهودي ألماني)، تلبس "النرجسية الجمعية" تارة لبوس القومية، وتارة أخرى ترتدي قناع النرجسية الدينية، حين يؤمن أصحاب ديانة ما إيمانا راسخا بأنهم أعزّ شأنا عند الله، وأنهم أحقّ بالجنة من غيرهم، وأنهم أكثر استقامة من الآخرين لأنهم ولدوا لهذه الديانة (شعب الله المختار)". وهو تفسيرٌ ينطبق تماما على المجتمع الإسرائيلي الذي ينحو في السنوات والعقود الأخيرة إلى اليمين واليمين المتطرّف بحسب استطلاعات الرأي، سيما بين الشباب. وهو ما عبّرت عنه الانتخابات التي جاءت بأكثر الحكومات اليمينية تطرّفا وعنصرية في تاريخ إسرائيل منذ تأسيسها.
لم يعد للنقاش العميق مكان وكثرت اليقينيات المتصارعة، وهو ما زاد الطين بلّة في تصاعد النرجسية الجمعية
كما يمكن، بحسب فروم، أن تظهر النرجسية الجمعية في أشكال أخرى من تحديد الهوية الجمعية وفق ظروف الزمان والمكان. ففي "كل حالةٍ يرضي المرء نرجسيته عن طريق الانتماء إلى المجموعة وربط هويته بها. وعليه، لا تتحقّق عظمته من كينونته، فهو نكرة، وإنما تتحقّق من انتمائه إلى أروع جماعة على الأرض". لقد سرّعت وسائل التواصل الاجتماعي والاتصالات الرقمية في العالم (وليس في إسرائيل فحسب) من وتيرة النرجسية الجمعية، حيث لم يعد للنقاش العميق مكان وكثرت اليقينيات المتصارعة، وهو ما زاد الطين بلة في تصاعد النرجسية الجمعية عبر العالم جعلت أوروبا، أخيرا، تنحو نحوا مطردا نحو اليمين. وهو ما يفسّر الغطرسة والتكبّر الذي يسم المجتمع الإسرائيلي منذ عقود عديدة سابقة، وإلا كيف يمكن لنا أن نفهم صمت المجتمع الإسرائيلي تجاه الانتهاكات المتواصلة ضد الفلسطينيين، بل تأييده العارم للحرب الوحشية على غزّة وحملة الإبادة الجماعية التي تتم ليل نهار أمام أعين هذا المجتمع، فيما العالم تجوبه الاحتجاجات المليونية على هذه الإبادة. احتجاجات يشارك فيها بكثرة شبان يهود في الولايات المتحدة وأحفاد الناجين من الهولوكوست. ما يجعلنا نتساءل، ونحن نتذكّر المظاهرات الضخمة في تل أبيب، احتجاجا على مجزرة صبرا وشاتيلا التي ارتكبتها إسرائيل وحلفاؤها من القوات اللبنانية في بيروت إبّان الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982. ما الذي تغيّر منذ تلك الاحتجاجات؟ ولماذا يصمت المجتمع الإسرائيلي على حرب الإبادة الجماعية التي تشنّها دولته على الفلسطينيين التي بدأت بوادرها في الضفة الغربية منذ مطلع العام الحالي، وإقدام المستوطنين على إحراق بلدة حوّارة في محافظة نابلس مرّتين؟ وبلغ الصمت مداه في العدوان على غزّة إثر عملية طوفان الأقصى كحرب انتقامية تسعى الحكومة الإسرائيلية ومن ورائها غالبية المجتمع الإسرائيلي إلى الانتقام من أهالي غزّة لتجرّئهم على المقاومة ومناهضة الاحتلال وعدم الاستكانة له والخنوع كالعبيد. وإذ فوجئت إسرائيل بهذه العملية الهجومية الضخمة والإبداعية، وشلت الصدمة القدرة على التصديق أن هذا الشعب المحاصر والمحتلّ من أبغض استعمار كولونيالي استيطاني إحلالي، تمكّنت من كسر غطرسة الاحتلال وجداره العازل وأجهزته الأمنية والاستخباراتية بكل فروعها خلال ساعات قليلة في خطّة عسكرية بارعة، تفوق تفاصيلها مخيّلة حتى أكثر الشعوب مقاومة في تاريخ حركات التحرّر الوطني عبر العالم، خصوصا لشعبٍ يخضع لحصار خانق منذ أكثر من 16 عاما. ربما أنهم قادة ومجتمع لم يتوقعوا بسبب غطرسة القوة ونرجسيّتهم الجمعية أن ينتفض الفلسطينيون على الاحتلال وانتهاكاته الوحشية. ربما لم يدركوا بعد أن الشعب الفلسطيني يحبّ الحياة أيضا. ولن يتوانى عن اجتراح المعجزات في سبيلها. بل زادته الانتهاكات التي يرتكبها الاحتلال بحقه تصميما وعزيمة على المقاومة والتصدّي لكل المحاولات للنيل من كرامته وكسر إرادته منذ نكبة 1948.
يتطلب أي حل ينشده المجتمع الإسرائيلي للتخلص من الشعور بالمأزق الوجودي، أن يُخضع نفسه للمساءلة
هل هو المأزق الوجودي الذي يتعاظم يوما بعد يوم، لينشر الخوف في نفوس المجتمع الإسرائيلي، ويدفعه إلى التطرّف يمينا وللتوغّل في دماء الفلسطينيين والفلسطينيات؟ أم أن النرجسية الجمعية التي تطغى على سلوكه، وتجعله يعيش أكاذيب شعب الله المختار، ويبرّر احتلاله فلسطين بوصفها "عودة إلى أرض الميعاد"، أو ليكذب قادته على العالم أجمع وعلى شعبهم أيضا حين أتوا بهم كمهاجرين عام 1948 وفق مقولة "إنهم شعب بلا أرض أتوا لأرض بلا شعب"، وارتكبوا تطهيرا عرقيا شرّدوا فيه ثلثي سكان فلسطين خارج أرضهم وداخلهم، حين لم تكن ثمّة كاميرات تنقل الحقيقة حية على شاشات التلفزة، أو حين جُلب أجدادهم و آباؤهم على متن سفن الشحن إلى فلسطين هاربين من أهوال المحرقة النازية، ولم يكونوا يملكون ترف تكذيب ما وجدوه حقّا من شعب أصيل متجذّر في أرضه. فماذا لو علمنا أن برامج التعليم في الدولة الصهيونية حرصت، منذ البداية، على زرع أوهام وأكاذيب لتبرير احتلالهم الاستيطاني الإحلالي، وتعظيم الشخصية النرجسية للأجيال الإسرائيلية عبر مقولة شعب الله المختار. لكن المفارقة أن غالبية من أسّس دولة إسرائيل من العلمانيين واليسار الملحدين أصلا.
من خصائص الشخصية النرجسية علميا "الشعور المبالغ فيه بالأهمية، والحاجة للاهتمام والإطراء من الآخرين والرغبة في السيطرة والتسلط والتستر وراء الكذب لتخفي عيوبها أو تعظّم من شأن صورتها حتى لو اختلقت الأكاذيب في سبيل ذلك. وقد يفتقر الأشخاص، (أو المجتمع النرجسي) المصابون بهذا الاضطراب النفسي الاجتماعي إلى القدرة على فهم مشاعر الآخرين والاهتمام بها"، كما في حالة الإبادة الجماعية التي يتعرّض لها الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة. وإسرائيل كذبت على العالم، وتكذب على شعبها وأجيالها في ظل عسكرة المجتمع الذي بات يتغذّى على الحروب المتكرّرة ضد المحيط العربي عموماً والفلسطينيين خصوصا.
ماذا يحدُث حين كشف أمر الشخصية النرجسية وكسر صورتها؟ حين تنكسر الشخصية النرجسية الفردية أو الجمعية، كما حدث إبّان عملية طوفان الأقصى؟. ... قد يصيبها نوع من الاكتئاب، يجعلها تشعر بالضعف الشديد وتتراجع إلى الخلف، أو هلع قد يدفعها لارتكاب العنف السافر بحق ضحاياها (حرب الإبادة) جنبا إلى جنب مع ابتزاز ضحاياها عاطفيا ونفسيا لمزيد من الاستغلال والقهر (حقّ الدفاع عن النفس)، بحيث ينطبق عليها المثل "ضربني وبكى سبقني واشتكى"، كأنها الضحية لا الجلاد.
لم يعد مقبولا أن يستمرّوا في الكذب وسرقة أراضي الفلسطينيين ومواصلة الانتهاكات وحروب الإبادة
وربما يقودنا هذا إلى استنتاج أن أي حل ينشده المجتمع الإسرائيلي للتخلص من الشعور بالمأزق الوجودي يتطلب أن يُخضع نفسه للمساءلة، أقله ليخرج من دوّامة الأكاذيب إن كان حقا يبحث عن النجاة. وإن كان ثمّة عقلاء بينهم، وهنالك عقلاء حتما وإن كانوا قلة، أن يصدُقوا المجتمع الإسرائيلي القول "إن بذور المأزق الوجودي الذي يعيشونه موجودة في صميم مكونات مجتمعهم، وأن التهديد الرئيس يأتي من هذه المكوّنات والأكاذيب والجرائم التي ترتكب باسمه .. وما عليهم إلا أن يتخلّوا عنها، وأن يكونوا صادقين مع أنفسهم كي يعيشوا السلام الداخلي، وإلا لن يتمكّنوا من العيش في سلام على هذه الأرض، فالشعب الفلسطيني لا ينتهي ولا يصمت أو يستسلم، لأنه صاحب حق. وهو في محيط عربي مجاور وتربطه فيه أواصر عضوية وثقافية وتاريخية بديهية، بينما هذا المحيط معادٍ لدولة إسرائيل، ومناصر للقضية الفلسطينية، بل هي تمثل قضيته المركزية في سعيه إلى التحرّر والنهوض. وإلا كيف يفهم ونفهم المظاهرات التي عمّت دولا عربية كثيرة احتجاجا على العدوان على غزّة، ونصرة للشعب الفلسطيني؟
الهجرة إلى فلسطين وابتزاز الحركة الصهيونية الناجين اليهود من هوْل المحرقة النازية وتحويل آبائهم وأجدادهم إلى عبيد في ما أُطلق عليه "جيش الدفاع الإسرائيلي"، هما أصل المشكلة، فالحركة الصهيونية العالمية، ومن ورائها الغرب الاستعماري، استثمرت في عذابات اليهود وأشعلت عذابات الفلسطينيين الذين لا علاقة لهم لا من قريبٍ أو بعيد بالمحرقة النازية التي ارتُكبت بحقّ اليهود. وآن الأوان لأبنائهم وأحفادهم أن يقرّوا هذه الحقائق، إذا ما أرادوا العيش في سلام مع أنفسهم أولا و/أو مع الشعب الفلسطيني، كي يُخلّصوا أنفسهم من مصير مظلم ينتظرهم إن واصلوا التماهي مع المشروع الصهيوني وسلوك طريق غطرسة القوة واستمرّوا بإراقة دم الفلسطينيين والفلسطينيات من غير حساب أو أي إحساس بالخجل أو العار أو تأنيب الضمير.
لم يعد مقبولا أن يستمرّوا في الكذب وسرقة أراضي الفلسطينيين ومواصلة الانتهاكات وحروب الإبادة، فشعوب الأرض قالت كلمتها وافتضح الأمر، وما عليهم سوى أن يُحكّموا العقل، ويلملموا عارهم ويتوقفوا عن الانقياد وراء حركة صهيونية استعمارية مُجرمة وقادة كاذبين يجرّونهم إلى الجحيم. ويجب أن يعمل الفلسطينيون جنبا إلى جنب مع المقاومة على خطابٍ مضادّ للحركة الصهيونية، كي يفهم الإسرائيليون الحقائق خلف مأزقهم الوجودي، ويقوموا بمراجعة الذات الفردية والجمعية إن أرادوا أن يعيشوا في سلام، وهم آتون إلى هذا لا محالة.