هل يعود الجهاديون على وقع حرب غزّة؟
وصل تراجع المجموعات الجهادية، في العام 2010، إلى نقطة الصفر مع إعلان مقتل قيادة التنظيم الوريث للقاعدة في بلاد الرافدين، دولة العراق الإسلامية، أبو عمر البغدادي وأبو حمزة المهاجر. وذلك بعد سنتين تقريبا من بدء مجالس الصحوات بين أبناء العشائر السنّية في العراق، التي شنّت حملات عسكرية أضعفت الجهاديين وأفقدتهم الحاضنة الشعبية. تنبّأ كثيرون بانتهاء المجموعات الجهادية، وبعدها بأشهر، قتل زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، وبدأت موجات الربيع العربي تنتقل من دولة إلى أخرى، ولم تعُد مجاهدة العدو القريب أو البعيد عنوانا جاذباً للشبّان، بل باتت قيم الديمقراطية، وحقوق الإنسان... إلخ، العناوين الرئيسية، حتى إن بن لادن تحدّث عن ذلك التراجع حينها، في وثائق أبيت أباد التي كشفت بعد مقتله.
في تلك الفترة، كانت القاعدة في اليمن تتبلور، ويعمد الجهاديون إلى هجمات فردية، كمحاولة اغتيال وزير الداخلية السعودي محمد بن نايف، أو محاولة تفجير طائرات مثل عملية عمر الفاروق، أو عبر تهريب المتفجرات في طابعات على الطائرات، وغيرها الكثير، لكنها كلها، دلّت، فيما عدا اليمن، على أن البنى التنظيمية تراجعت.
تحدّث الجهاديون أنفسهم عن حال التراجع تلك، وأشار إليها بعضهم، خصوصا في العراق، بعد سنوات عن ارتدادهم إلى الجبال والوديان، وكانت أعدادهم بالعشرات، ولكنهم، ومع التحوّلات في بنية ثورات الربيع العربي، ودخولها مراحل العسكرة، خصوصا في سورية، عاد الجهاديون بقوة، لا بل أنتجوا تنظيما سيطر على مساحات من العراق وسورية تعادل مساحة بريطانيا، لتُشن حملة دولية ضدها، شغلت العالم، وشهدت الدول، خصوصا في الشرق الأوسط وأوروبا، موجات من الهجمات بأشكال مختلفة، أرعبت العالم، وبفعل التحالف الدولي ضدّها، تراجعت تلك المجموعات.
إذا ما انتهت الحرب في غزة لغير صالح حركة حماس، سيتوفر الظرف الموضوعي الأساسي لإعادة إنتاج المجموعات الجهادية العالمية
بالمنهج التاريخي، فإن تلك المجموعات ساهمت في بروزها وأفولها عوامل عدة، أهمها: التمويل، والتجنيد، والحاضن سواء اجتماعيا أم جغرافيا (معسكرات تدريب، تأييد ودعم من المحيط...إلخ)، وهذه العوامل المتعددة يمكن تقسميها إلى عوامل مادية ومعنوية. أما الأولى فترتبط بالفعل العسكري ذاته على الأرض كتنفيذ العمليات، والقدرة على التجنيد، والشبكات... إلخ، والثانية المعنوية ترتبط بالدعاية، والرسالة، والأهم، في حالة المجموعات الإسلامية المسلحة: السرد.
أعلت حرب غزّة من أهمية الحركات الإسلامية المحلية/ الوطنية المقاتلة، على حساب المجموعات الجهادية العالمية المتراجعة، وذلك بفعل النجاح التي حققته تكتيكات حركة حماس، أو كتائب عز الدين القسام، في حرب غزّة الحالية. وبالتالي، سيكون انتهاء الحرب لصالحها، بأي شكل، دفعة للنماذج الشبيهة: مجموعات مسلحة ذات أجندة محلية، وبذراع مسلحة مع ذراع سياسية (حزب الله، المجموعات الشيعية المسلحة في العراق، الحوثيون)، وهذه كلها مدعومة إيرانيا، لكن هناك مجموعات غير مدعومة إيرانيا، لا بل على النقيض، كحال جبهة النصرة (هيئة تحرير الشام) في سورية، لا بل وعلى النقيض من إيران، لكنها تسعى إلى نموذج إسلامي، محلي، مقاتل، وهو الأمر الذي يحتاج تحليلا أكثر. لكن مهما يكن من أمر، فإن انتصار تلك النماذج الإيرانية أو تفوقها يعدّ سببا في إعادة المجموعات الجهادية السنّية نفسها إلى ساحة التنافس، وهذا يرتبط بتحوّلات جيوسياسية أكبر. ومهما يكن من أمر، إعلاء نماذج المجموعات المحلية الإسلامية على حساب الجهادية العالمية يكون أمراً متوقّعا. ورغم السرديات القوية المرتبطة بغزّة، والظلم الذي وقع بالمدنيين، والتحيّز السافر لإسرائيل من الولايات المتحدة ودول غربية كثيرة، فإن هذه السرديات، لتساهم في إعادة إنتاج الخطاب الجهادي العالي، تحتاج إلى ظروف موضوعية، لم تتبلور بعد.
حال الإحباط في الشارع العربي، مع معدّلات عمرية صغيرة ومعدّلات إحباط عالية، عوامل تصبّ في خانة إعادة إنتاج الخطاب الجهادي
لكن، إذا ما انتهت الحرب في غزة لغير صالح حركة حماس، فإن السرديات تلك سيتوفر لها الظرف الموضوعي الأساسي لإعادة إنتاج المجموعات الجهادية العالمية. وهذه، بحكم تراجعها وهزيمتها في السنوات الأخيرة، ستتيح لمثل تلك السرديات، التي تقدم تفسيرا لإحباط الشبان، وغضبهم، خصوصا في أوساط جيل جديد، أن تعزّز ما تعرف بالعمليات الفردية، أو "الجهاد الفردي"، خصوصا أن هذا النمط لجأ إلى المجموعات الجهادية في حالات ضعفها، على مر المراحل التي أشير لها من قبل. كما أن السرديات تلك تأخذ سنوات طويلة في التشكل، والتبلور، وإعادة الإنتاج، على سنوات طويلة، تتلاءم وتحوّلها إلى خطاب سياسي "متكامل" (التكامل هنا يعني التناغم مع الذات ولا يعني أمرا سلبيا أو إيجابيا)، وهذا ما نجح فيه الجهاديون عموما.
حال الإحباط في الشارع العربي، مع معدّلات عمرية صغيرة، ومعدّلات إحباط عالية (فقر، وبطالة، وقمع، ونظام تعليمي متراجع... إلخ)، عوامل تصبّ في خانة إعادة إنتاج الخطاب الجهادي. والسرديات التي أنتجتها حرب غزّة تعد عاملاً مساعداً، ولكن على المستوى العملي. وفي ما يتعلق بالقدرات العملياتية، لا نسمع عن عشرات الذين ارتدّوا إلى الصحراء كما في العام 2010، كما أشير في بداية المقال. لكنّ هناك، بالمناسبة، بعضَ الجيوب في العراق كحالة ديالى وجبال حمرين، وبعضَ المناطق في شمال سورية، وانتشاراً واسعاً وقوياً للجهاديين في أفريقيا. وبالتالي، لا ضمانة أنهم لن يعودوا، ولكن هذا يرتبط بظروفٍ موضوعية، سترتبط في السنوات المقبلة بالقضية الفلسطينية ومآلاتها، على الأقل في المستوى المنظور. وإلى حين ذلك، ستلعب السرديات التي أنتجتها حرب غزّة، سلبا وإيجابا، دورا أساسيا في دفع كثيرين إلى الراديكالية، والهجمات المنفردة، كما شهدت عدة مدن أوروبية منذ بدء حرب غزّة، تاركة تحديد مستقبل الجماعات الإسلامية المسلحة (المحلية والعالمية) إلى حين انتهاء حرب غزّة.