هل يفرّط السيسي بإرث عبد الناصر؟
تعثّرت عمليات تعويم السفينة، إيفرغيفن، العالقة في قناة السويس منذ 23 مارس/ آذار الماضي، أياما، قبل أن تنجح فرق الإنقاذ المصرية في تحريكها، بمساعدة سفينة هولندية متخصصة تعاقدت معها شركة إيفرغرين التايوانية التي تتبع لها السفينة، وأخرى إيطالية تدخّلت في الساعات الأخيرة، واتضح أن الإمكانات الذاتية التي تمسّكت السلطات المصرية بها كانت متواضعة، بعد أن رفض نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي أي مساعدة دولية خشية تدويل الأزمة الذي قد يتسبب بمزيد من الإحراج أمام الشعب المصري، بعد فشله المتراكم في إدارة الدولة والمجتمع المصريين.
تسبب الحادث بخسائر مالية كبيرة لشركات الشحن، وشركات التأمين، وهدّد الأمن الاقتصادي العالمي، ما فتح الباب واسعا للحديث عن بدائل للملاحة الدولية توقف الخسائر وتجنّب أزمات مماثلة. وبدأ خبراء وسياسيون بطرح طرق شحن بديلة لقناة السويس، نحو خطوط نقل النفط والغاز المسال، والسكك الحديد، والشحن الجوي، والقطارات، ظلّت حلولا قصيرة المدى لم تُختبر بعد بما يكفي، للتحقّق من جدواها. بدت الأهمية الاستراتيجية للمجرى الملاحي المصري مهدّدة، وتداخلت الطروحات الهادفة إلى معالجة الأزمة، وتلك التي أرادت استغلالها لتحقيق مصالح اقتصادية وسياسية، وترويجها. انضمت إيران إلى روسيا في ترويج خط الملاحة "شمال -جنوب" باعتباره يختصر الوقت بنسبة 40%، والتكاليف بنسبة 30%. ولكن مع اختصار المسافة على طول الخط الرابط البحري الشمالي من الصين إلى الموانئ الأوروبية، مقارنة بالعبور عبر الممر المائي المصري، ومع خلو الطريق بشكل متزايد من الجليد بفضل كاسحات الجليد الروسية العملاقة، وتغير المناخ بفعل الاحتباس الحراري، إلا أن الفارق في الأرقام كاف ليظهر أن هذا البديل ما زال بعيدا أن يكون منافسا لقناة السويس، فبينما عبر القناة 1.17 مليار طن على ظهر 18800 سفينة العام 2020، مرّت في بحر الشمال 62 سفينة فقط، بحمولة إجمالية قدرها 30 مليون طن خلال العام نفسه.
استغلت أوساط إسرائيلية مختلفة أزمة السفينة إيفرغيفن، لتطرح مجددا مشروع القناة الإسرائيلية البديلة وترويجه
عقب توقيع اتفاقية وادي عربة للسلام بين الأردن وإسرائيل، طرحت الأخيرة مشروع شق قناة تربط ميناء إيلات/ أم الرشراش بالبحر الأبيض المتوسط، أطلقت عليه مشروع قناة بن غوريون، واستمرَّت وتيرة التصريحات الإسرائيلية مبشرة بالقناة البديلة. واستنادا لتسريبات لـ"ميدل إيست آي" عن ترتيبات أولية ومشاورات بين الإمارات وإسرائيل بشأن ممر مائي محتمل يمر عبر إيلات، رافقت توقيع اتفاقية التطبيع (إبراهام)، كتب أندريو جوس في "إسرائيل تايمز"، في 6 نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، معتقدا أنه سواء نوقشت الفكرة بين الجانبين أم لم تناقش، يبقى الأهم الفكرة بحد ذاتها، ولا تزال الحجّة بالنسبة لبديل لقناة السويس قوية، داعيا إلى إنهاء احتكار مصر العبور إلى البحر الأبيض المتوسط قدوما من البحر الأحمر، وأن قناة إسرائيلية بديلة سوف توفّر الأمن التجاري الدولي، وستدعم اقتصاد إسرائيل وأمنها، حيث سيكون من مصلحة مزيد من الدول الحفاظ على أمن إسرائيل والحد من العداء لها. وأن ميزة إسرائيل في المنافسة مع مصر تكمن في أنها لم تبن القناة بعد، وفي وسعها الاستفادة من استخدام المعرفة المتاحة عن السويس، لتخطيط مجرى مائي بتكاليف تشغيل أقل، وكفاءة وقدرة أكبر، في حين أن أي تعديلاتٍ قد تدخلها مصر التي امتلكت القناة ستكون مكلفة للغاية. وقد استغلت أوساط إسرائيلية مختلفة أزمة السفينة إيفرغيفن، لتطرح مجددا مشروع القناة الإسرائيلية البديلة وترويجه.
ضغط المشاريع البديلة دفع الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، إلى تصريحات مطمئنة عن مستقبل القناة وسلامة الملاحة فيها. وفي الوقت الذي بدت فيه رسالته موجهة إلى المجتمع الدولي، استهدفت أيضا تهدئة مخاوف المصريين من البدائل التي قد يضطر الشاحنون العالميون إلى السعي وراءها بعد انسداد قناة السويس، وما تبعه من اضطرابٍ استمر أياما. صحيحٌ أن الاقتصاد العالمي بات حاسما في توجيه السياسات أكثر من استجابته للرغبات السياسية، إلا أنه اليوم يبدو أكثر هشاشةً من أي وقت مضى في ظل جائحة كورونا، وأي استخفاف بتلك الطروحات، مهما بدت غير واقعية، قد تدفع ثمنه مصر غاليا في المستقبل القريب، ما يوجب الاستعداد لأي طارئ. فمثلا، هل كان يمكن تعويم السفينة إيفرغيفن في وقت قياسي، اعتمادا على قاطرات لا تتجاوز قوة شدها 160 طنا (تبلغ حمولة السفينة حوالي 244 طنا)؟
هل عسكر مصر بقيادة السيسي قادرون فعلا على الحفاظ على ثروات مصر، والتي لم يكن أولها التفريط بجزيرتي تيران وصنافير؟
للأسف، يبدو الطرح الإسرائيلي بشأن البديل هو الأكثر واقعية وخطورة على مصر، على الرغم من تشكيك بعضهم بفرص نجاحه، معللين ذلك بأنه تم إغلاق القناة بوجه السفن الإسرائيلية منذ العام 1956، تبعها إغلاق كامل للقناة ثماني سنوات عقب حرب العام 1967، ولم تمض إسرائيل بأي مشروع بديل. ويستند آخرون إلى وثيقة سرية أميركية تعود إلى العام 1963، رفعت عنها السرّية العام 1996، وأعيد تسليط الضوء عليها، تتضمّن مخطّطا أميركيا لفتح ممر بحري بديل لقناة السويس عبر النقب، معتقدين أنه لو كان ذلك ممكنا لما تراجعت عنه الإدارات الأميركية. هناك أسبابٌ عديدةٌ تمنع أي إدارة أميركية لتنفيذ أي مخطط من هذا النوع في حينه، والذي لم يكن ليحظى بأي تأييد عربي، كما أن سيادة مصر على جزيرتي تيران وصنافير، المصريتين، مكّنتها من التحكّم بمدخل خليج العقبة. أما اليوم فطريق الشحن الجديد ممكن بمحيط عربي مخترق بالتطبيع مع إسرائيل. وبعد تنازل السيسي عن الجزيرتين للسعودية في عام 2017، وبالإضافة إلى الخطط الإماراتية الإسرائيلية المشتركة، من غير المستبعد أن يحظى المشروع الإسرائيلي بموافقة ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، الذي يطمح إلى تحويل مدينة نيوم على البحر الأحمر، غير بعيد عن المكان الافتراضي لقناة بن غوريون، إلى منطقة جذب سياحي. ومن المحتمل ألا يعارض الأردن المشروع، بعد أن تخلى عنه العرب في ظل أزماته الصحية والاقتصادية التي تعصف به، وبعد توقيعه الاتفاق العسكري مع الولايات المتحدة، كما أنه قد يكون متحمّسا لربط البحر الميت بالبحر الأبيض المتوسط.
لا تزال قناة السويس، بعد ما يزيد عن قرن ونصف القرن، شريانا حيويا في التجارة الدولية، ومصدرا رئيسيا للدخل القومي المصري. وحين نجح عسكر مصر بقيادة جمال عبد الناصر في تأميم قناة السويس العام 1956، استعاد الشعب المصري ثروته القومية المستلبة التي دفع ثمنها آلافا من أرواح أبنائه الذين حفروا القناة. ولكن كان من الممكن ألا يكون لهذا التأميم أي معنى، لولا نجاح المصريين في حينه في إدارة القناة، وتأمين خطوط التجارة العالمية، ونيْل الكفاءات المصرية ثقة العالم، الأمر الذي استدعى تدخلا أميركيا لوقف العدوان الثلاثي على مصر، لفرض الاستقرار في منطقة القناة. السؤال اليوم ما إذا كان عسكر مصر بقيادة السيسي قادرين فعلا على الحفاظ على ثروات مصر، ووقف التفريط بإرث عبد الناصر، والذي لم يكن أوله التفريط بجزيرتي تيران وصنافير، ولم يكن آخره الفشل بالحفاظ على مياه النيل في إدارة أزمة سد النهضة.