هل يمكن أن تخون إسرائيل أميركا؟
كما هو معتاد في لقاءات القمة الأميركية – الإسرائيلية، على مدى العقود السبعة الماضية، تبادل الرئيس الأميركي جو بايدن وضيفه، رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينت، عبارات التشديد على التحالف الاستراتيجي الذي يجمع بين بلديهما. أؤكد على "الالتزام الأميركي الذي لا يتزعزع بأمن إسرائيل". هكذا قال بايدن عند استقباله بينت في البيت الأبيض، الأسبوع الماضي. ردَّ الأخير التحية بأحسن منها، حين قال: "أريد أن أكون واضحاً تماماً: تقف إسرائيل دائماً إلى جانب الولايات المتحدة الأميركية بشكل لا لبس فيه". ولكن بينت، كغيره من رؤساء وزراء الدولة العبرية الذين سبقوه، لا ينطلق في علاقته مع واشنطن من زاوية تقدير "المعروف" وليس لديه أدنى نية لردِّ الجميل، بل هو انتهازي لا يأتي إلا طلباً لمزيد من الدعم الدبلوماسي والاقتصادي والعسكري، ولو على حساب المصالح القومية الأميركية نفسها. "كلهم (أعداء إسرائيل في الشرق الأوسط) يريدون القضاء على الدولة اليهودية. هذا هو السبب في أن إسرائيل يجب أن تكون أقوى بشكل ساحق من أي من أعدائنا، وفي الواقع من جميع أعدائنا. ولهذا أود أن أشكركم، سيدي الرئيس، على المساعدة مرة أخرى في تعزيز الميزة الاستراتيجية لإسرائيل". كان لبينت ما أراد، ولكن هل فعلاً أن إسرائيل "تقف دائماً إلى جانب الولايات المتحدة بشكل لا لبس فيه"، وبأنها لا تخونها ولن تخونها أبداً؟
في محاولة للإجابة، لنعد إلى سياق القمة الأميركية – الإسرائيلية. جاءت زيارة بينت إلى واشنطن في خضم الأيام الأخيرة من عملية الانسحاب الأميركي الفوضوية من العاصمة الأفغانية، كابول، ومحاولاتها اليائسة لإجلاء آلاف الأميركيين، وعشرات آلاف من المتعاونين الأفغان معها، وعوائلهم. وفي اليوم الذي كان يفترض أن يتمَّ فيه لقاء القمة، الخميس (26/8)، شنَّ تنظيم الدولة الإسلامية – خراسان هجوماً انتحارياً دامياً على المطار، أوقع عشرات القتلى بين صفوف المدنيين الأفغان المحتشدين هناك، على أمل إجلائهم، فضلاً عن 13 جندياً أميركياً، فأعلن البيت الأبيض تأجيل لقاء بايدن – بينت من يوم الخميس إلى يوم الجمعة (27/8).
ليس على إسرائيل أن تقلق كثيراً من استنزاف مواردها وإمكاناتها، إذ يتم تعويضها أميركياً
لا الورطة الأميركية في أفغانستان، وكلفتها الباهظة عليها، استراتيجياً وإنسانياً واقتصادياً، ولا حجم الكارثة الأميركية، وأجواء الحداد الوطني التي ترتبت على مقتل عدد من جنودها في الأيام الأخيرة من وجودها العسكري في ذلك البلد، دفعت بينت إلى الخجل من تسوّل مزيد من الدعم العسكري لإسرائيل. جاء إلى واشنطن طالباً مزيداً من الدعم لترسيخ احتلال الأراضي الفلسطينية، ولتعزيز قدرة إسرائيل على استمرار عدوانها على المنطقة بأسرها، في الوقت الذي ينكفئ فيه النفوذ الأميركي في مناطق عديدة، بما فيها الشرق الأوسط، في محاولة لتحشيد أكبر قدر من القوة الأميركية وتوجيهها نحو الصين وروسيا. لم يتردّد بايدن يوماً في أن يعلل قراره الحازم، الانسحاب من أفغانستان، بضرورة توظيف أقصى درجة من الإمكانات الأميركية لاحتواء الصين، تحديداً، استراتيجياً واقتصادياً وسياسياً، ثمَّ روسيا. أما إسرائيل، فليس عليها أن تقلق كثيراً من استنزاف مواردها وإمكاناتها، إذ يتم تعويضها أميركياً. أي أن الدولة نفسها (الولايات المتحدة) التي تحاول توفير كل دولار في معركتها الجيو استراتيجية الأكبر منذ انتهاء الحرب الباردة، تتورّط في استنزاف ذاتي لا داعي له، ولكن من أجل مصلحة دولةٍ أجنبية، لا تبدي كثير اهتمام بالمصالح الحيوية الأميركية!
وهكذا، عاد بينت محمّلاً بهدايا ضمان "تفوق إسرائيل العسكري النوعي" في الشرق الأوسط. كما نجح في تأمين دعم إدارة بايدن طلب تجديد نظام القبة الحديدية الذي تعتمد عليه تل أبيب في التصدّي للصواريخ التي تستهدف عمقها من قطاع غزة وجنوب لبنان، بقيمة مليار دولار من التمويل الطارئ. وشملت الاتفاقات العسكرية بين الطرفين التعاون في مجالات الدفاع الجوي والصاروخي ومواجهة أنظمة الطائرات من دون طيار، و"ضمان قدرة إسرائيل على الدفاع عن نفسها ضد تهديدات إيران ووكلائها". ومعلوم أن الولايات المتحدة رفعت قيمة مساعداتها العسكرية لإسرائيل من 3.1 مليارات دولار سنوياً إلى 3.8 مليارات دولار، بموجب مذكرة التفاهم التي وقعتها إدارة الرئيس السابق باراك أوباما مع حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو، عام 2016. كما تحدّد المذكرة خمسة مليارات دولار إضافية لتطوير أبحاث دفاع الصواريخ الباليستية.
جاء في "إحاطاتٍ سرّية" أن "إسرائيل تتجسّس على الولايات المتحدة أكثر من أي حليفٍ آخر
ما الذي حصلت عليه واشنطن مقابل ذلك كله؟ ببساطة، لا شيء! استمر بينت في التحريض على مساعي بايدن الهادفة إلى العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران للتفرغ للتحدّيات الجيوسياسة الأهم لبلاده. بمعنى، كل ما يهمه أن تستنزف الولايات المتحدة نفسها من أجل تحقيق أوهام تل أبيب في العظمة والسيطرة المطلقة على الشرق الأوسط، بأموال الأميركيين ودمائهم. كما بقي بينت عند موقفه من أنه لن تكون هناك دولة فلسطينية خلال ولاية حكومته، ولن يكون هناك تجميد للاستيطان في الضفة الغربية المحتلة، وهو ما تتسوّله إدارة بايدن منه. وبهذا، فإن الهدف الأساس للقمة والمتمثل في "إعادة ضبط العلاقات الأميركية – الإسرائيلية"، بعد اثني عشر عاماً من حكم نتنياهو واستفزازه الديمقراطيين، وأربع سنوات من التحالف مع الرئيس السابق دونالد ترامب والجمهوريين ضدهم، تقلص إلى مجرد أن بينت ليس نتنياهو! وبأنه، أي بينت، وإن كان أكثر يمينيةً من نتنياهو، لن يتحدّى بايدن علناً، كما كان نتنياهو يفعل مع أوباما. ولكن ذلك لن يعني أن بينت لن يفعل كل شيء، تحت الطاولة، لإفشال أجندة بايدن المتعلقة بإيران وبالاحتلال الإسرائيلي لفلسطين!
ولا تتوقف وقاحة تل أبيب في استخفافها على مدى العقود السبعة الماضية بواشنطن عند ذلك الحد، فرغم أنها لا تستطيع أن تحافظ على وجودها من دون الدعم والحماية الأميركيين، إلا أنها لم ولا تتردّد في تحدّيها في نسج علاقات اقتصادية واستراتيجية مع خصمها الجيوسياسي الأبرز، الصين. منذ ثمانينيات القرن الماضي والولايات المتحدة تتذمّر وتضغط على إسرائيل لوقف بيع الأسرار العسكرية والتكنولوجية الأميركية التي تحصل عليها مجاناً إلى الصين. بل لم تتردّد الأجهزة الاستخباراتية الأميركية في اتهام تل أبيب بمساعدة بكين، في عقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، في تطوير طائرتها المقاتلة تشنغدو J-10، عبر تسريب تكنولوجيا إسرائيلية إليها، موّلتها الولايات المتحدة. ومع متابعة إسرائيل تغير ميزان القوى العالمي، وصعود الصين قطبا عالميا ندّا للولايات المتحدة، فإنها عمّقت من علاقاتها الاقتصادية معها. ولم تجد ضغوط إدارة ترامب عليها في ثنيها، كلياً، عن إرساء صفقات تطوير بنيتها التحتية على شركات صينية. أما الأكثر مرارة أميركياً أن يكون ملف العلاقات الصينية – الإسرائيلية، على أجندة لقاء بايدن – بينت، وكأن الولايات المتحدة، كفيل إسرائيل، تستجدي منها الوفاء بحق الدعم الذي ما زالت تقدّمه إليها مجاناً!
أبعد من ذلك، جاء في "إحاطاتٍ سرّية" قدّمتها، عام 2014، وزارتا الأمن الوطني والخارجية، بالإضافة إلى مكتب التحقيقات الفيدرالي، والمديرية الوطنية لمكافحة التجسّس، أن "إسرائيل تتجسّس على الولايات المتحدة أكثر من أي حليفٍ آخر، وقد وصلت هذه الأنشطة إلى مستوى ينذر بالخطر". أما أهداف هذا التجسّس، فهي "الأسرار الصناعية والتكنولوجية للولايات المتحدة". ولم تتردّد هذه الجهات في الإشارة إلى السفارة الإسرائيلية في واشنطن أنها الوكر الذي تدار من خلاله هذه العمليات.
إسرائيل لا تقف دائماً إلى جانب الولايات المتحدة بشكل لا لبس فيه، خانتها غير مرّة، وستخونها مرّات
الكلام في هذا الموضوع يطول، وما سبق غيضٌ من فيض، ولكن مؤدّاه واحد. على عكس ما قال بينت، إسرائيل لا تقف دائماً إلى جانب الولايات المتحدة بشكل لا لبس فيه، وهي خانتها غير مرّة، وستخونها مرّات ومرات، وهي لا تهتم إلا بمصالحها، ولا تعنيها المصالح والدماء الأميركية. التاريخ والأحداث لا يكذبان. أم هل، يا تُرى، نسي الأميركيون الهجوم البربري الإسرائيلي على المدمرة الأميركية يو أس أس ليبرتي، التي كانت تُبحر على مقربة من المياه الإقليمية المصرية في البحر الأبيض، خلال عدوان يونيو/ حزيران 1967، وقتل خلاله 34 وجرح 171 من أفراد طاقمها؟ ادّعت إسرائيل حينها أنها ظنتها سفينة حربية مصرية، ولكن الوثائق الأميركية تؤكد أن تل أبيب كانت تعلم أنها سفينة عسكرية أميركية. وهل، يا تُرى، نسي الأميركيون تجسّس جوناثان بولارد، الذي عمل محللاً استخباراتياً مدنياً في البحرية الأميركية، في ثمانينيات القرن الماضي، لصالح إسرائيل؟ تمكّن بولارد من تمرير مليون وثيقة حساسة لإسرائيل، وقبض عليه عام 1985 وهو يحاول التقدّم بطلب لجوء للسفارة الإسرائيلية في واشنطن، وحكم بـ30 عاماً. في شهر مارس/ آذار الماضي، صرح بولارد لصحيفة إسرائيلية، بأنه تجسّس على موطنه الأميركي السابق، لأن "الولايات المتحدة خانت إسرائيل"!
عين الشمس لا يمكن أن يحجبها غربال، وإسرائيل ستبقى حليفاً أميركياً ما دامت الولايات المتحدة القوة العظمى. أما إذا تغيّرت الموازين الدولية، فإنها ستعمل على نقل وكالتها من كتفٍ إلى آخر، تماماً كما فعلت في القرن الماضي مع بريطانيا. أما لماذا تقبل الولايات المتحدة بذلك كله، فتلك مسألة أخرى، ناقشتها مقالات سابقة للكاتب، وقد يعود إليها لاحقاً.