هل يمكن إزاحة السلطويات عبر صناديق الاقتراع؟
في وقت يتأهب الرأي العام العالمي، ومن بينهم المتابعون العرب، لمتابعة انتخابات تشريعية أو رئاسية في البلدان الغربية أو في بعض بلدان الجنوب في أميركا اللاتينية أو آسيا، يكاد الرأي العام العربي ينسى مواعيد الاستحقاقات الانتخابية النيابية أو الرئاسية العربية. أو يرصدها بعضهم على وسائل التواصل الاجتماعي على سبيل السخرية من مجرياتها العبثية، كما هو الحال تجاه الانتخابات الرئاسية التي عقدت أخيراً في الجزائر أو المرتقبة في تونس، وقد افتقدتا أدنى الظروف السياسية والقانونية الملائمة لعقد انتخابات ذات حيثية بشكلٍ فاق الحدود المعقولة لما اعتدْنا عليه في السابق من عقد انتخابات عربية روتينية لا تأتي بجديد.
تعدّ الانتخابات في الديمقراطيات الوسيلة المركزية لاختيار من يتولّى إدارة البلاد، وهي الفرصة التي تخضع فيها الأحزاب والسياسيون للمحاسبة الشعبية، وهي أيضاً وسيلة فرز القيادات السياسية الجديدة على المستويات المحلية والوطنية واكتشافها. وأمّا السلطويات، فتمثل الانتخابات عندها فرصة لتجديد شكلها الخارجي وشرعيتها أمام العالم. وعادة ما تكون الانتخابات الرئاسية ورطةً تضطر هذه الأنظمة إلى إجرائها في ظل حسابات وتجهيزات معقّدة، بحيث تكون مخرجاتها تحت السيطرة، بينما توفر الانتخابات التشريعية لهذه الأنظمة فرصةً لتوزيع المصالح والرشاوى السياسية على التابعين والداعمين لنظام الحكم، وضمان تجديد ولائهم أيضاً لمنظومة الحكم. في هذا السياق، اتجه نظام عبد الفتاح السيسي إلى تأسيس غرفة برلمانية أخرى، تعرف بمجلس الشيوخ، أعطته، إلى جانب مجلس النواب، مساحة واسعة لتدجين الأحزاب السياسية، وتصنيع سياسيين جدد داعمين لمصالح النظام.
تمثل الانتخابات عند السلطويات، فرصة لتجديد شكلها الخارجي وشرعيتها أمام العالم
قد تكون الانتخابات أداة للتغيير السياسي في سياقات سلطوية، في ظل شروط وظروف سياسية خاصة، فقد عرفت دولٌ أخرى لحظات فارقة، مثلت فيها المنافسة في الانتخابات الفرصة الحاسمة للانتقال الديمقراطي، وإنهاء حكم سلطوي كما جرى في الاستفتاء الدستوري والانتخابات الرئاسية في تشيلي، والتي أنهت نظام حكم الجنرال أوغستو بينوشيه عام 1990، وتجربة الانتخابات الرئاسية في المكسيك عام 2000، والانتخابات البرلمانية والرئاسية في جورجيا في 2003-2004... نموذج آخر حديث مثير للانتباه لفرص نجاح الانتخابات في فرض معادلة التغيير في ظل نظام سلطوي جرى في غامبيا في غرب أفريقيا عام 2016، والتي مثلت نقطة تحوّل لهذه الدولة، حيث أنهت أكثر من عقدين من حكم الرئيس يحيى جامع. فاز في تلك الانتخابات مرشح المعارضة أداما بارو، رغم المخاوف الواسعة من الترهيب والتلاعب الانتخابي. وفي ظل رفض جامع الاعتراف بهزيمته، مارست المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، ضغوطاً مكثفة لضمان احترام فوز بارو. وفي النهاية، اضطر جامع إلى مغادرة البلاد.
لم تكن هذه التغييرات في هذه الدول وليدة المصادفة، بل سبقها تمهيد وضغوط استمرّت سنوات داخلياً وخارجياً في ظروف إقليمية ودولية ساعدت على إطلاق مساحةٍ من الحرّيات العامة، ونجاح المعارضة على فرض ضماناتٍ لضمان إجراء انتخابات عامة نزيهة وتنافسية، فضلاً عن قدرة مكونات هذه المعارضة على الاصطفاف الائتلافي العابر للأيديولوجيات، وتنظّم نفسها في جبهة سياسية عريضة تنافس للفوز وتشكيل الحكم الجديد.
لن يكون الصندوق الانتخابي وسيلة تغير في المشهد السياسي العربي من دون نضال متراكم
تغيب هذه الظروف عن النظم السياسية العربية الراهنة، والتي من الصعب الرهان فيها على الانتخابات، لاعتبارها وسيلة للتغيير والخلاص. يسير مستوى القمع وتدهور حكم القانون في الجمهوريات العربية التي انتكست فيها ثورات الربيع العربي في مستوياتٍ غير مسبوقة تقضي على فرص بزوغ أي مرشّح أو ائتلاف قادر على تحقيق رقم في السباق الانتخابي، وتحدّي الوضع القائم. يختلف هذا الوضع جذرياً عن السنوات السابقة على اندلاع الثورات العربية، والتي اتسمت فيها بعض أنظمة الحكم بالتسامح النسبي مع المعارضة والمجتمع المدني. وقد رأينا كيف استطاعت السلطات المصرية إبعاد السياسي أحمد طنطاوي، وهو من المرشّحين الجادّين، من سباق الانتخابات الرئاسية في 2023، ثم سجنه في قضية ملفقة، لضمان إبعاده مستقبلاً عن الانتخابات. وفي دول عربية أخرى، مثل لبنان والعراق، يظل المشهد الطائفي المركّب الذي يؤسّس للنظام السياسي، فضلاً عن التدخّلات الإقليمية عائقاً أمام أن تتمكّن التيارات التقدّمية الوطنية من أن تكون الانتخابات قاطرتها لكسر هيمنة التيارات السياسية التقليدية عن الحكم. أو في ظل ملكياتٍ تجري الانتخابات العامة فيها على مجالس نيابية تفتقد للسلطات والتوازن في الصلاحيات مع السلطة التنفيذية، وفي ظل قوانين انتخابية مَصوغة بدقّة من نخبة الحكم لوضع المعارضة في الحدود المسموح بها فقط داخل المؤسّسات النيابية.
لن يكون الصندوق الانتخابي وسيلة للتغير في المشهد السياسي العربي من دون أن يسبقه نضالٌ متراكم، وانتصارات صغيرة تستطيع المعارضة وقوى المقاومة في المجتمع المدني إنجازها، وفرضها على السلطة الحاكمة عبر تحالفاتها الواقعية وتجاوز انقساماتها بشكل مسؤول، وتعبيرها عن نفسها وطرح نفسها بديلاً على المستوى الدولي. وقد يكون في الإعلان أخيراً في تونس عن تشكيل الشبكة التونسية للدفاع عن الحقوق والحريات، جبهة واسعة تضم أحزاباً سياسية وجمعيات مدنية وحقوقية ونسائية رائدة، بداية لتشكيل ضغط داخلي وخارجي يمكن البناء عليه مستقبلاً لإحياء الديمقراطية في تونس.