هل يمكن احتواء التضخّم في تركيا؟
يشغل هذا السؤال بال كثيرين، فهل يمكن أن تستعيد الليرة التركية مكانتها في التاريخ القريب، وإن كان ذلك صعباً فهل يمكن إيقاف تدحرجها، أم ستواصل تراجعها السريع؟ يمكن أن تحدّد إجابة هذا السؤال أشياء كثيرة للمواطنين الأتراك وللسياح الأجانب والمستثمرين، وقد تساعد في تسهيل التخطيط لمستقبلهم. المؤسف أن لا أحد يمتلك إجابة شافية، فمنذ أواسط العام الماضي، وإذا كنا نعقد المقارنة بالدولار، فقدت الليرة التركية نصف قيمتها. ثبت أيضاً أن النظرية التي تقلل من تأثر السوق بهذا التراجع غير واقعية، لأن أسعار معظم السلع والخدمات تضاعفت خلال هذه الفترة، وبعضها زاد إلى ما هو أكثر من الضعف.
تحاول الحكومة التركية، حاليا، مواجهة الضغوط التي تواجه المواطنين من خلال توفير بعض الدعم الاجتماعي وزيادة الأجور، لكن ما يظهر في الشارع من تذمر يوحي بأن جميع هذه الإجراءات غير كافية لسد الفجوة التي تسبب بها الضعف المفاجئ لقيمة العملة المحلية، حيث يردّد مواطنون كثيرون أنهم باتوا يجدون صعوبة في توفير احتياجاتهم الأساسية، بسبب ارتفاع الأسعار، وهم لا يفرّقون هنا بين الزيادة التي يفرضها السوق بسبب العرض والطلب والزيادة بسبب التضخم.
السيناريو الأسوأ الذي يخشاه مراقبو الوضع الاقتصادي التركي أن تصل البلاد إلى نقطة اللاعودة التي وصلت إليها بالفعل دول تمتعت في وقت ما باقتصاد مستقر. تلك الدول لم تكن تظن أن الدولار الذي كان يساوي بضع وحداتٍ من عملتها يمكن أن يرتقع سعره ليساوي خلال فترة قصيرة مئات منها.
أسعار معظم السلع والخدمات تضاعفت خلال هذه الفترة، وبعضها زاد إلى ما هو أكثر من الضعف
هل فات أوان احتواء الأزمة الاقتصادية، أم ما زال هناك أمل في استعادة زمام المبادرة، وإيجاد صحوة شبيهة بالتي عاشتها البلاد في بداية الألفية؟ ما زال الحصول على إجابة لهذا السؤال صعباً، فالمتحمّسون لحكومة "الحرية والعدالة" يعتبرون أن ما تعيشه البلاد من تعثر اقتصادي ناتج عن الحرب التي يخوضها كثيرون في الداخل والخارج من أجل إفشال الحكومة، كما يعتبرون أن العداء الاقتصادي هو الوجه الآخر للحرب الدبلوماسية، ولمحاولة الانقلاب الفاشلة التي يؤمنون بوقوف أنظمة معادية خلفها.
من جهة أخرى، تستخدم المعارضة الورقة الاقتصادية للقول إن المجموعة التي تحكم تركيا منذ أكثر من عشرين عاماً استنفدت خططها وبرامجها، وأن سياساتها التي قادت إلى الرخاء، في بدايات سنوات حكمها، وإلى محو أصفار كثيرة من على يمين الليرة، أصبحت تشكل عبئًا اليوم على الدولة التي تستحق أن تجرّب مشروعاتٍ ورؤى اقتصادية جديدة.
إلى جانب نظرية المؤامرة التي يؤمن بها المؤيدون وأحاديث فشل الحكومة التي تردّدها المعارضة، لأغراض معروفة، من الممكن الإشارة إلى عوامل أخرى على رأسها الاضطرابات السياسية والأمنية في دول الجوار التركي. ومقارنة بفوضى ما بعد "الربيع العربي" كانت سنوات الصعود الأولى هادئة، وكانت تبشر فعلاً بقرب الوصول إلى تحقيق هدف تصفير المشكلات مع جميع دول الجوار، بما يشمل تسهيلاً لمرور البضائع والبشر، بكل ما يعنيه ذلك من فوائد اقتصادية.
كان الاستقطاب السياسي وتمدّد الإرهاب وتدفق اللاجئين مجرد عناوين كبيرة للتأثيرات التي امتدت إلى الداخل التركي، والتي توسعت وصولاً إلى خوض حروبٍ على أكثر من جبهة، بما يعنيه خوض الحرب من ضغطٍ على الاقتصاد وعلى موارد الدولة. ووصلت الهزّة السياسية إلى داخل الحزب الحاكم نفسه، ليعاني، لأول مرة، من انشقاق شخصياتٍ مهمة، كانت تحمل رؤى مختلفة بشأن قضايا كثيرة.
تستخدم المعارضة الورقة الاقتصادية للقول إن المجموعة التي تحكم تركيا منذ أكثر من عشرين عاماً استنفدت خططها وبرامجها
متهم آخر بالتراجع الاقتصادي، سياسة تخفيض سعر الفائدة. يقول نقاد هذه السياسة إن تركيا، باتباعها سياسة تقوم على محاربة الفوائد، تسير عكس اتجاه الاقتصاد العالمي الذي يزيد من الأرباح والفوائد، تشجيعاً للاستثمار، ويعتبر أولئك النقاد أن هذه السياسة تمثل إحدى المحاولات غير العقلانية لأسلمة الدولة.
في دفاعهم عن تخفيض الفائدة لا يتحدّث المسؤولون الأتراك عن الأسلمة بقدر حديثهم عن التجربة التاريخية. هم يذكرون أن أولى مؤشرات ضعف الدولة العثمانية كانت حينما استلمت أول قرض كبير من دول أوروبية بفائدة في العام 1839. أول نتيجة لهذا القرض كانت التحوّل إلى التقويم الميلادي من أجل تحديد موعد الوفاء بالدين، ثم تمثلت النتيجة الثانية بالسماح بتدخل أوروبي، خجول في البداية، في الشأن الداخلي، قبل أن يصل الأمر إلى إعلان إفلاس الدولة في العام 1875.
سددت الدولة العثمانية ومن بعدها الجمهورية التركية ديونها، لكن سعر الفائدة، الذي وصل في العام 2020 إلى 25% كان أشبه بالبقرة المقدّسة التي لا يسمح لأحد بالاقتراب منها، على الرغم مما تثيره من مشكلات. وبالنسبة للرئيس التركي أردوغان، ارتفاع سعر الفائدة سبب ارتفاع الأسعار.
لا يهم أن تستردّ الليرة القيمة التي كانت عليها بقدر ما يهم استقرارها
لا يمكن التقليل من التضخم المتصاعد بوصفه مشكلة، فبسبب هذا الوضع غير المستقر لليرة تصبح الأعمال ذات التسليم البعيد، والتي يتم حسابها بالعملة المحلية، خطرة، وكذلك كل ما تعلق بأعمال الاستثمار. هنا لا يهم أن تستردّ الليرة القيمة التي كانت عليها خلال الأعوام السابقة، بقدر ما يهم استقرارها الذي يساعد رجال الأعمال على الحساب الصحيح للأرباح، ومن ثم جدوى المشاريع.
على الرغم من ذلك كله، ليست الصورة قاتمة تماماً، حيث توضح الإحصاءات صمود الاقتصاد التركي إبّان الركود العالمي في 2020، وارتفاع الناتج المحلي الإجمالي خلال العام الماضي إلى 11%، كما يؤمن مصدّرون كثيرون بأن انخفاض عملتهم يمنحهم فرصًا أكبر للربح. من جانب آخر، تتساءل وجهة نظر أخرى عن سعر العملة المحلية، وهل هو مؤشّر جيد للتعبير عن عافية الاقتصاد، وذلك أخذاً في الاعتبار الروبل الروسي الذي ارتفع بعد الحرب الأوكرانية أو اليورو الأوروبي الذي فقد مكانته وتجاوزه الدولار.