هل يمكن التعويل على تفاهمات الدبيبة مع حفتر؟
يصعب التعويل على التفاهمات التي عقدها في ليبيا كل من رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة واللواء المتقاعد خليفة حفتر، وظهرت بعض خيوطها في خطواتٍ عملية، تجسّدت في إقالة مدير مؤسسة النفط الليبية مصطفى صنع الله، وتعيين فرحات بن قدّارة المقرّب من حفتر خلفا له، وفي اللقاء الذي جمع بين رئيس الأركان في طرابلس، اللواء محمد الحداد، ورئيس الأركان في بنغازي، اللواء عبد الرزاق الناظوري، وانتهى ببيان نصّ على أن اللجنة العسكرية المشتركة توافقت، خلال اجتماعها في طرابلس، على إنهاء النزاع في البلاد، وناقشت ضرورة تسمية رئيس أركان واحد للمؤسسة العسكرية، وشدّدت على الرفض التام لعودة الاقتتال ونبذ العنف ودعم مدنية الدولة. وأكد البيان على "الرفض التام والمطلق للعودة إلى الاقتتال بين أبناء الوطن الواحد، ونبذ العنف والدعم الكامل لمدنية الدولة، وإبعاد المؤسسة العسكرية عن التجاذبات السياسية"، وعلى دعم "جهود اللجنة العسكرية المشتركة (5+5)، والاستمرار في تنفيذ ما خلصت إليه في اجتماعاتها السابقة، بما في ذلك تأكيد خروج المرتزقة والمقاتلين الأجانب والقوات الأجنبية".
ويبدو أن الخطوات التي نتجت عن التفاهمات بين الدبيبة وحفتر كان أساسها التفاهم على ورقة النفط الليبي، التي تعد من أقوى أوراق الصراع بين الأطراف الليبية، وتمتلك أهمية كبيرة، إذ إن من يسيطر عليها ستهرول القوى الدولية الفاعلة في التعامل معه، فضلاً عن أن النفط يوفر المال الذي يحتاجه الطرفان من أجل تمويل خططه ودعم أنصاره وكتائبه العسكرية. يضاف إلى ذلك أن التفاهمات الأمنية والعسكرية تحظى بدعم شعبي، كونها تشيع وميض أملٍ بإمكانية الحفاظ على وحدة البلاد وأمنها، واستعادة الدولة وهيبتها، حيث أصبحت غالبية الشعب الليبي تراهن على توحيد المؤسسة العسكرية من أجل الخلاص من حالة الفوضى والانفلات الأمني، وترى أن الخطوات، وما ينتج عنها من اتفاقات، يمكن أن تحمل معها ممكناتٍ للخلاص من استمرار حالة الانسداد السياسي، والفشل المتواصل في إدارة المؤسسات والإدارات، والفساد المستشري وسوى ذلك.
ترتبط الوعود بتوحيد المؤسسة العسكرية وسواها بممكنات تنفيذها على الأرض، وبمدى استعداد القوى العسكرية لاستخدام قدراتها لإزالة مهدّدات الأمن الليبي
ومن غير المستبعد أن خطوات التقارب بين الدبيبة وحفتر هي نتاج صفقة تقارب سياسي بينهما، بالرغم من نفي الطرفين وجودها، كونها تأتي في ظل حاجةٍ عمليةٍ لدى الطرفين إليها، فضلاً عن أنها ستلقي بظلالها على اصطفاف القوى الليبية، وخصوصا على مستقبل حكومة فتحي باشاغا، التي كلفها البرلمان قبل شهرين بقيادة ليبيا في مرحلة انتقالية أخيرة تقود إلى انتخاباتٍ عامة، حيث إن خيوط الصفقة قد تمتد إلى دعم حفتر حكومة الدبيبة والنأي عن حكومة باشاغا، مقابل تبديل بعض الوزراء فيها بشخصياتٍ مقرّبة من حفتر، على غرار ما حصل في مؤسسة النفط الليبية. ولكن السؤال هنا يطاول إمكانية تطبيق بنود الاتفاق العسكري في ظل وجود كتائب وفصائل متناثرة، وعدم تطبيق بنود الاتفاق السياسي الذي نصّت عليه خريطة الطريق المفضية إلى انتخابات برلمانية ورئاسية، واستمرار حالة الانقسام السياسي بين الشرق والغرب، ووجود حكومتين متنافستين في كل من طرابلس وسرت، وتردّي الأوضاع الأمنية والمعيشية وحالة الغليان الشعبي المتزايد بسبب تردّي الأوضاع المعيشية وتدنّي الخدمات الضرورية وانعدامها.
غير أن تفاهمات الطرفين تحمل في طياتها أكثر من مغزى استراتيجي، وبما يعيد اصطفاف القوى المتصارعة في ليبيا، وإعادة ترتيب التحالفات السياسية والأمنية القائمة في شرقي البلاد وغربها، إذ إنها قد تفضي إلى انقساماتٍ جديدة في المعسكرين الشرقي والغربي، حيث يتمسّك البرلمان ورئيسه عقيلة صالح بباشاغا رئيساً للحكومة من جهة أولى، فيما توجد في الغرب الليبي بعض الكتائب المسلحة التي تتشدّد في عدائها ضد حفتر من جهة ثانية.
في المقابل، تحظى خطوات التفاهم بين الدبيبة وحفتر بدعم أميركي، ودعم المبعوثة الأممية إلى ليبيا ستيفاني وليامز، التي اعتبرت أن اللقاء الذي جرى بين قياديي الأركان مثال يحتذى به في كل المسارات الليبية الأخرى، خصوصاً المسار السياسي، فيما أشادت البعثة الأممية في ليبيا "بالاجتماع الذي جرى في طرابلس في 18-19 يوليو/ تموز بين قادة الجيش الليبي"، وأعربت عن دعمها "تواصل المحادثات في المسار الأمني، لا سيما التي تتم من خلال اللجنة العسكرية المشتركة (5+5)، بما فيها التنفيذ التام لاتفاق وقف إطلاق النار المبرم في أكتوبر/ تشرين الأول 2020".
يشي عمق الأزمة الليبية وحدَّة الانقسامات وتضارب المصالح بأن من الصعب توقع أن تفتح الصفقة بين الدبيبة وحفتر سبلاً لحلحلة الأوضاع
وترتبط الوعود بتوحيد المؤسسة العسكرية وسواها بممكنات تنفيذها على الأرض، وبمدى استعداد القوى العسكرية لاستخدام قدراتها لإزالة مهدّدات الأمن الليبي، خصوصاً في مجال مساعدة القوى الأمنية في بسط الأمن داخل البلاد، وبما يقتضي استكمال الخطوات التي وردت في بيان القوى العسكرية، مثل عودة المهجّرين، وإطلاق سراح الأسرى، وتسيير دوريات مشتركة وبسط السيطرة الكاملة على حدود البلاد، والعمل على إخراج القوات الأجنبية ومجاميع المرتزقة منها. يضاف إلى ذلك أن مهمة استعادة الأمن في ليبيا صعبة وتبدو عسيرة، بالنظر إلى اتساع مساحة الأراضي الليبية، وتركز حوالي 90% من السكان في مدن الساحل الليبي وبلداته، مقابل ترامي فراغ سكاني كبير في مناطق الجنوب، وانفلات الحدود مع تشاد والنيجر والسودان، إلى جانب الوجود القبلي السائد لما يزيد عن 140 قبيلة، ووجود مجموعات عرقية عديدة، وبما يوفر بيئة اجتماعية حاضنة لمجموعات إرهابية عابرة للحدود.
ويشي عمق الأزمة الليبية وحدَّة الانقسامات وتضارب المصالح بين الفرقاء بأن من الصعب توقع أن تفتح الصفقة بين الدبيبة وحفتر سبلاً لحلحلة الأوضاع في ليبيا والسير باتجاه تطبيق خريطة الطريق التي اتفق عليها ملتقى الحوار الليبي، والمفضية إلى وضع دستور وإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية، وذلك لأن القوى الخارجية الخائضة في الصراع الليبي لا تبدو ظاهرة في تفاصيل المشهد الليبي، وما يتمخض عنه من تفاهماتٍ وصفقات، هي التي تقود الدفّة من الخلف، وما زالت تحرّك جميع الخيوط واللاعبين، وتتحكّم في مسار الأحداث وفق مصالحها الخاصة، وعلى حساب مصالح الليبيين.