هموم ألمانيا في ذكرى الوحدة وهمومنا في بلدان النكبات
قبل منتصف ثمانينيات القرن الماضي، لم يكن الألمان في شطري ألمانيا، المنقسمة إلى شرقية وغربية، يتصوّرون أن إعادة الوحدة ممكنة، أقلّه في المدى القريب بالنسبة إليهم، لكن عودة الوحدة وقعت، وتهاوى قبلها جدار الفصل الذي أنشئ في 1961، واستمرّ ما يقارب الثلاثين عامًا، وكانت المنظومة الشيوعية مسيطرةً على أوروبا الشرقية، بزعامة الاتحاد السوفييتي.
في برلين، حيث أسكن، تقع قريبًا مني النقطة الشهيرة المعروفة باسم نقطة تفتيش شارلي، ما زالت قائمة مثل نصب تذكاري في منتصف الشارع، أمامها موقع جدار برلين الذي تم تحطيمه في العام 1989، وإلى يمينها متحف الحائط، تكثُر المتاجر الصغيرة حولها، التي تبيع قطعًا تذكارية معظمها يحمل ذاكرة برلين عن الحرب العالمية، والحرب الباردة، وقبل الجدار وبعده، كما يقع قريبًا منها معرض السيارة الأشهر، والأكثر توافرًا وشعبية في ألمانيا الديموقراطية "الشرقية"، بل هناك عديد منها يُؤجّر للتجوال في شوارع برلين، كنوع من النشاط السياحي.
عندما تقرّر بناء الجدار، كان الهروب أكثر سهولةً من الجهة الشرقية نحو الغربية من برلين، حيث كانت في الحدود "ثغراتٌ" في الأسلاك الشائكة بإمكان مواطني الكتلة الشرقية الهروب من خلالها. وتفيد الإحصائيات بأنه هرب حتى بناء الجدار في 1961، ما يعادل 20% من سكان ألمانيا الشرقية، معظمهم من الشباب وأصحاب الكفاءات العلمية والمهنية، وكانت ألمانيا الشرقية تعتبر المنطقة الحدودية للمعسكر الشرقي الشيوعي بزعامة الاتحاد السوفييتي، ولا يفوت الوافد، كما المقيم، في برلين أن يرى التذكير الدائم بالتاريخ الحديث تحديدًا، لألمانيا، بكل مطبّاته وتجاربه المدمّرة، والمخزية بالنسبة لغالبية الشعب، كما لو أن العنوان العريض الذي يجب أن يبقى ماثلًا في البال هو: كي لا ننسى.
معاهدة الوحدة بين ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية دخلت حيز التنفيذ في 29 سبتمبر/ أيلول من 1990، لكها لم تكتمل حتى ليلة 2 إلى 3 أكتوبر/ تشرين الأول 1990. عندما انضمّت، في منتصف الليل، الولايات المؤسسة حديثاً، إلى جمهورية ألمانيا الاتحادية، وهي مكلنبورغ الغربية وبراندنبورغ وبرلين وساكسونيا إنهالت وساكسونيا وتورنغن، فاعتمد هذا اليوم للتأسيس لهذا الحدث الذي غيّر وجه ألمانيا وأوروبا أيضًا.
ألمانيا أمام تحديات عدّة، منها تدبير بيتها الداخلي وحماية مواطنيها بالتخفيف من آثار الحرب
وكانت الاحتفالية في ذكرى الوحدة لهذا العام في مدينة إيرفورت في شرق ألمانيا، حيث توجّه المستشار الألماني أولاف شولتس والرئيس الاتحادي فرانك - فالتر شتاينماير لحضور الاحتفالات في هذه المناسبة التي من خلالها تُخلّد ذكرى الثورة السلمية عام 1989 وإعادة توحيد ألمانيا قبل 32 عاما، في وقتٍ تعاني فيه ألمانيا، كغيرها من الدول الأوروبية تحديدًا، ودول عديدة، من انعكاسات الحرب الروسية على أوكرانيا، هذه الانعكاسات التي بات المواطنون يعانون منها بشكل واضح، لناحية الغلاء وارتفاع الأسعار بشكل عام، والطاقة بشكل خاص. ولكن الحكومة الألمانية في حالة استنفار دائم وعمل دائب واستنباط الحلول وطرح المقترحات، من أجل حماية المستهلكين، ومن أجل حماية الشركات والصناعة الألمانية بشكل خاص، كي لا تتعثّر عجلة الاقتصاد، خصوصًا بعد ما لحقها من أزمة جائحة كوفيد 19، إذ وصل التضخم في الشهر المنصرم (سبتمبر/ أيلول) إلى 10%، وهذا رقم يخيف الحكومة بالطبع. وكان الائتلاف الحاكم في ألمانيا قد أعلن الأسبوع الماضي عزمه على توفير ما سماها "مظلّة الدفاع" بقيمة تصل إلى مائتي مليار يورو لدعم المستهلكين والشركات بسبب أسعار الطاقة المرتفعة.
في ظل هذه الأزمة، العالمية، والتي تنعكس على ألمانيا والدول الأوروبية بشكل واضح، قال المستشار الألماني، أولاف شولتس، في كلمته: "إننا نتضامن وندعم أوكرانيا ومواطنيها في كفاحهم من أجل الحرية والوحدة والعدالة في بلادهم .. المؤكد أننا سوف نقدّم الدعم ما دام ذلك ضروريا". وأضاف: "مؤكّد أيضا أن ألمانيا ملتزمة بضمان تطبيق نظام السلام الأوروبي، الذي يتعرّض للخطر بسبب الحرب العدوانية الروسية الوحشية في أوكرانيا"، موضحا أن هذا النظام يعني عدم مهاجمة الجيران أو إحداث إزاحة في الحدود باستخدام العنف. وأضاف: "هذا أيضا ما ننادي به الرئيس الروسي: يجب أن ينهي حربه". ولكن نهاية الحرب التي تهزّ أرجاء العالم اليوم لا يبدو أنها وشيكة. وتداعياتها، العاجل منها والآجل، سترسم على ما يبدو خريطة العالم المستقبلية، ولن تكون هناك مفاوضات تؤدّي إلى وقف الحرب، ووقف تغوّل السلاح وازدهار تجارته في الوقت القريب، الحرب التي ربما بلغت كلفتها أرقامًا فلكية، قادرة على إطعام الفقراء والجياع في أنحاء المعمورة، ومنهم عشرات الملايين في الدول العربية، مثلما حذّرت مديرة صندوق النقد الدولي، كريستينا جورغييفا، في المؤتمر الذي احتضنته الرياض أخيرا، من أن 141 مليون شخص في العالم العربي معرّضون لانعدام الأمن الغذائي.
لا يمكن لأي شخصٍ متابع، ويعيش في هذه الأزمنة، إلّا أن يُصاب بالقلق والخوف من أي انهياراتٍ مقبلة في العالم
إلى ذلك الموعد الذي سيحمل معه وعدًا، قد لا يكون لصالح بلادنا العربية غالبًا، ألمانيا أمام تحديات عدّة، منها تدبير بيتها الداخلي وحماية مواطنيها بالتخفيف من آثار الحرب، ومنها العمل على حماية الاتحاد الأوروبي من الانهيار، بعدما بدأت تظهر ملامح تشير إلى انزياحات في ألوان الحكومات، وفي الرأي العام، على مستوى القاعدة في بلدان أوروبية عديدة، خصوصا بالنسبة للموقف من الحرب الروسية الأوكرانية، وفوز اليمين الشعبوي في إيطاليا على سبيل المثال بالنسبة للحكومات، ومطالبات بولونيا الحكومة الألمانية بتعويضٍ عما ألحقته بها في الحرب العالمية الثانية على سبيل المثال، وهو مبلغ ضخم، بالرغم من أن ألمانيا تعدّ نفسها أنها تحرّرت من ذلك، بالتنازل عن بعض الأراضي لبولونيا. حتى إن الرئيس الألماني، فرانك فالتر شتاينماير، حذّر منذ ثلاثة أشهر من انقسام أوروبي بسبب هذه الحرب، واعتبرها حربًا ضد وحدة أوروبا. ولكن لو تمعّنا في الواقع، سوف نرى أن هناك ما يهدّد هذا الاتحاد الأوروبي، وما فعلته الحرب أنها كشفت نقاط ضعفه أو تهديده، فإذا كانت الدول الكبرى، مثل ألمانيا وفرنسا، قد تدخّلت سابقًا لحل أزمة الديون على اليونان والبرتغال على سبيل المثال، فإنها اليوم غير قادرةٍ بالمستوى نفسه على تحمّل الأزمات التي تتفاقم في عدة دول أوروبية، عدا عن أزماتها الخاصة التي تسعى إلى حلّها، وزادت الحرب على أعبائها، عبء التسلح الذي كانت ألمانيا قد دفعته إلى مراتب خلفية بالنسبة لأولويات القضايا المهمة، لكنها بعد الحرب رصدت ميزانيةً كبيرة، أو جزءًا لا بأس به من دخلها القومي، من أجل تعزيز القدرة العسكرية.
مؤكّد أن عودة اتحاد الألمانيتين كان حدثًا تاريخيًا يمكن استقاء العبر منه، وأن سقوط الجدار الفاصل الذي قسّم برلين إلى شطرين حوالي 30 عامًا، جرى بطريقة سلمية، من دون أن ننسى أنه كان حدثًا متوقعًا، وقد سبقته تحضيراتٌ على مستوى القيادة في البلدين، خصوصا بعد تهاوي الإمبراطورية السوفييتية، وتراخي قبضتها على المعسكر الشرقي. لكن في هذا العالم المنقاد بقوى كبرى لا تكف عن الصراع من أجل السيطرة على الشعوب، والتمسّك بدور القيادة، لا يمكن لأي شخصٍ متابع، ويعيش في هذه الأزمنة، إلّا أن يُصاب بالقلق والخوف من أي انهياراتٍ مقبلة في العالم، لأن رجعه سيصيب أبعد المناطق في الكرة الأرضية، ومنها نحن، في سورية والمنطقة العربية بشكل عام، ونحن لسنا في الأطراف، بل في المركز، ومصيرنا ليس بأيدينا بالمطلق، إنما مرتبط بحلبة الصراع العالمي، فهل هناك ما يمكن البناء عليه من أجل أملٍ في أن تكفّ الحرب في سورية عن الاشتعال هنا وهناك، وأن نضمر بعد ذلك أملًا في عودة وحدة سورية بعد تشرذمها الحالي؟ لسنا فاعلين، ولن نكون، في السياسة العالمية، لكن من الطبيعي أن نبقى شاخصين إلى ما يحدُث، وأن نتمنّى ألّا ينهار الاتحاد الأوروبي، كي لا تزداد حياتنا بؤسًا، بما أننا مرتبطون بتلك العجلة التي لا تكفّ عن الدوران.