"هوليغان" السياسة
لماذا يتحوّل الشعب هوليغان؟ ... ذاك أحد أكثر الأسئلة إلحاحاً أمام استفحال الشعبويّة في مفتتح هذا القرن، حتى في "أكبر ديمقراطيات العالم"، حيث يُطاح الطاغية، ثمّ يُستدَعى دائماً بالحجج نفسها: إنّه رجل عظيمٌ وبطل ضرورة.
"لا تنجب الأممُ العُظماءَ إلّا مُرغمةً".. عبارة كتبها بودلير (1821) في يوميّاته بطوباويّة رومنسيّة سرعان ما واجهها سيوران (1995)، مؤكّداً أنّ على أيّ جمهوريّة تحترم نفسها أن تحترز من "الرجل العظيم"، أو على الأقلّ "أن تحول دون نشوء أسطورة من حوله". لم يقف بودلير مع العظماء عبادةً للأشخاص، بل انحيازاً للتفرّد في وجه العدد والكثرة. ولم يرفض سيوران فكرةَ العظَمة من باب العدميّة، بل لأنّه اعتبرها مصيبةً تؤدّي إلى إحلال الأشخاص محلّ المؤسّسات، وإلى وضع القوانين نفسها في خدمة الجريمة.
ثمّة في هذا كلّه الذي يحدث إشارات واضحة إلى أنّنا نعيش زمن عودة الأصنام والأباطرة، من طريق أولئك الذين اقتنعوا بأنّهم قُصّرٌ رُضّعٌ، لا يصلحون للحريّة ولا تصلح لهم، والذين باتوا يدمنون طاعةَ الوليّ، ويخفون إدمانهم تحت قِناع نوع من الإعجاب المتعصّب الذين، نراه لدى الـ "Fan" (المشجّعين) في طريق تحوّلهم هوليغان (وصف للمشجّعين المنظّمين العنيفين).
"كلّ شيء يبدأ من تمريرة جميلة". بهذه العبارة يبدأ فيلم "في البحث عن إيريك"، من إخراج كين لوتش (2009)، إذ يلعب نجم كرة القدم إيريك كانتونا دور الفادي والمخلّص والقدوة، في نظر بيشوب، الذي ينسى أسباب غضبه وكراهيته ويستبعد غاندي وكاسترو ومانديلا، ويختار كانتونا شخصيةً أيقونيةً تجسّد المثل الأعلى بالنسبة إليه. هكذا يصبح اللاعب بديلاً من سارق النار الذي يعلّم الإنسان ما لم يعلم. يصبح لاعب كرة القدم بروميثيوس العصر.
إلّا أنّ "نار" بروميثيوس العصر مزيجٌ من الغضب والكراهية، تحوّله "هوليغان"، الغاضب والكاره، يرفضان الاستماع إلى أي رأي مخالف. يرفضان أي معلومة لا توافق المعتقد المُسبق. يؤمنان بنظرية المؤامرة التي تستهدف الفريق، وتستهدفهما شخصياً، ويريدان الانتصار بالعنف والقوة. يقلبان الطاولة على مَن يتوهّمان أنّهم الخصوم وينتهيان بالانقلاب على ممثليهما. من ثمّ خطورة الشعبوية الهوليغانيّة. إنّها العاطفة الراديكالية التي تطبّع العنف وتمنحه شرعيةً لا يمكن قبولها تحت أيّ مبرر. الغضب ينتج الموافقة العمياء، والكراهية تقصي الآخر من الإنسانية. كلاهما يمنع المواجهة العقلانية.
لا يرى "الهوليغان" إلّا ما يريد. لا يسمع إلّا ما يقول. لا يتكلّم، بل يصرخ. لا ينقد، بل يشتم. لا يتحمّل النقد. لا يخطئ. وإذا جوبه بذلك ألقى اللوم على غيره. "الهوليغان" لديه مشاعر شبه غريزيّة. لديه معتقدات وليس لديه فِكَر، لذلك هو لا يُفكّر. لا يحاور. لا يتجادل. إنّه يحبّ بعنف ويكره بعنف ويدافع عن معتقداته بعنف. تصبح معتقداته أشدّ تطرّفاً كلّما أصبحت جماعيّة. لذلك يحيط نفسه بأشباهه. يكره الآخرين. يقصيهم. يشمت فيهم أشدّ الشماتة. يشرّع لنفسه التعامل معهم بوصفهم أغياراً مباحين لكلّ أنواع التوحّش.
متعصّب كرة القدم يبدو أقلّ هوليغانيّةً من متعصّب السياسة. إنّه يحبّ اللاعبين لأنّهم يحقّقون انتصارات ملموسة، ويسجّلون أهدافاً، ويقودون فرقهم نحو الألقاب. هذا الجمهور يدعم معشوقيه إذا تعرّضوا لصعوبات، لكنّه يسحب دعمه إذا تراجع عطاؤهم عن تقاعس أو خذلان. إنّهم حبٌّ ضعيف البصيرة، لكنّه لم يفقد البصر تماماً. أمّا متعصّب السياسة، أعني الشعب حين يتصرّف جمهوراً، فهو يمارسُ حبّاً أعمى حقّاً. يصنع طغاةً من أشخاص لا يرى لهم أيَّ إنجاز ملموس عدا الشعارات الزائفة والخطب الرنّانة لإشاعة الخوف في الجميع، وخلق هالة من العظمة حول أنفسهم.
يستجيب "هوليغان" كرة القدم لنوع من الحُبّ الهيستيريّ. أمّا "هوليغان" السياسة، فيحكمهم إنكارهم الباثولوجي (المرضي) لخوفٍ مُزمن من أب متسلّط في إحدى يديه جزرة وهميّة، وفي الأخرى عصاً وفلقة. ثمّة نوع من العقلانيّة العمَلِيّة المنفلتة لدى "هوليغان" الرياضة. أمّا "هوليغان" السياسة، فلا عقلانيّة لديه ولا هم يعقلون. إنّه مَرضٌ في الحريّة لا نتعافي منه إلّا إذا سمّيناه. تماماً كما سمّاه مونتيسكيو (1755) في "روح القوانين"، حين تحدّث عن رغبة سيلا في أن يردّ إلى روما حرّيتها، وكيف أنّها عجزت عن قبول تلك الحرّية "حتى إنّها عوضاً عن أن تستيقظ بعد قيصر وتيبريوس وكايوس وكلوديوس ونيرون ودوميسيان ازدادت عبوديّةً؛ أصابت الضربات الطغاة، لكنّها لم تصب الطغيان".