هونغ كونغ أم هانوي؟ لا حيرة بعد اليوم
لا يُستهان بعدد المعجبين في منطقتنا بالنماذج التي تقترحها أنظمة الثلاثي روسيا والصين وإيران في ما يتعلق باحترام قيمة البشر والحريات والديمقراطية والرخاء. دعوات تعميم ما يحصل هناك تتردد بصيغة اختصرها حسن نصر الله يوماً بـ"التوجه نحو الشرق"، وهي تجد مبرّرها الأول في مواجهة ذلك الغرب اللعين الذي نحمد الله صبحاً ومساء على وجوده لكي نغطّي به مصائبنا وأمراضنا محلية الصنع. ولأنّ البشر لم يجدوا وسيلة أفضل من الديمقراطية لتنظيم شؤونهم العامة، فإنّ الثلاثي ذاك مصرّ على ممارسة إحدى أدوات الديمقراطية، أي الانتخابات. والنتيجة؟ إهانة للمصطلح وللحياة وللبشر وللعقل ولكلّ قيمة إنسانية. وشاء عام 2021 أن يجمع ما بين "الديمقراطيات الشرقية" الثلاث في أعراس انتخابية متنقلة. افتتحها ملالي إيران بكتابة قاموس جديد لنزاهة الاقتراع حيث يتم اختيار الفائز قبل أشهر من موعد التصويت. ثم واصل الروس هواية ترتيب المنزل قبل وصول الضيوف، فضاعفوا عدد الزنازين وهندسوا القوانين لتفادي أوجاع الرأس الملازمة للحرية. أما في الصين، فلم يجد الحزب الحاكم ساحة لممارسة ديمقراطيته إلا في هونغ كونغ التي أعادها إلى بيت الطاعة قبل عام ونصف العام بقانون "الأمن القومي" بعد عقود من الحريات والديمقراطية والصحافة المستقلة والتعدّدية الحزبية التي كان يمكناً لها مع الوقت أن تخفف من قساوة النموذج الاقتصادي النيوليبرالي الذي لم ينصف جميع سكان الجزيرة الذين يزيد عددهم عن الملايين السبعة.
أجرت بكين انتخابات برلمانية في هونغ كونغ يوم الأحد الماضي، فكانت عدة الشغل على الموعد: قانون الانتخابات بعنوان وقح: "للوطنيين فقط". بموجبه، كان على المرشحين الـ153 أن يتعهدوا بالولاء السياسي للصين للسماح لهم بالمشاركة. صحيح أنّ المجلس يتألف من 90 مقعداً، لكنّ التصويت كان على عشرين فقط، لأنّ السبعين الآخرين تعيّنهم النقابات واللوبيات المحلية الموالية للصين. إنّها ديمقراطية التعيين. وعلى سيرة القانون، فإنّ تطبيقه فرض سجن عشرة أشخاص لأنهم ارتكبوا المعصية الكبرى: الدعوة إلى مقاطعة الانتخابات، بينما فرّ عشرات غيرهم إلى الخارج لأنهم ارتكبوا "الجريمة" إياها. وهل يعقل أن يدعو أحد إلى مقاطعة العرس؟ لكنّ 70 في المائة من الناخبين، قاطعوا بالفعل. بينما في عام 2019، أي في آخر تصويت قبل صدور قانون الأمن القومي الذي أنهى الاستثناء الديمقراطي لهونغ كونغ، شارك 71 في المائة، وقد فاز معسكر الديمقراطية وقتها بـ90 في المائة من المقاعد بلا حبس ولا قتل ولا نفي. في الأمس كان النموذج الغربي اللعين للديمقراطية، واليوم "ديمقراطية الوطنيين". وحول نسبة مشاركة ضئيلة كهذه، كان لا بد من سماع جواب رئيسة هونغ كونغ، كاري لام، النسخة المحلية للتسلط الصيني. قالت السيدة إنّ "المشاركة المنخفضة لا تعني شيئاَ لأنه لا يمكننا نسخ ولصق النظام أو ما يسمى بالقواعد الديمقراطية للدول الغربية". هذا معروف، فإن كان الغرب يمارس الديمقراطية، فما علينا إلّا أن نقتل شعوبنا وأن نحرمهم منها، انتقاماً من الغرب، وإمعاناً في هزيمته.
في نهاية التسعينيات من القرن الماضي، قال السياسي اللبناني وليد جنبلاط إنّ على لبنان أن يختار بين نموذجَي هونغ كونغ وهانوي، في استعارة للتناقض بين إصرار رفيق الحريري في حينها على جعل لبنان مركزاً مالياً عالمياً مفتوحاً، مع ما يفرضه الانفتاح من توفر حريات، وإصرار معسكر النظام السوري وحزب الله، أي نظام إيران، على إبقائه ساحة حرب دائمة اسمها المقاومة. النتيجة معروفة: هانوي قتلت هونغ كونغ، واغتال حرّاس هانوي في لبنان رفيق الحريري ونموذجه، وصارت بيروت "ما بعد بعد هانوي". الأهم من ذلك أنّ حسن نصر الله لن يمانع بعد اليوم من أن تصبح هونغ كونغ نموذجاً للبنان، فمسيرة إلغاء المسافة الفاصلة بينها وبين بكين، بلغت شوطها الأخير.