هيئة تحرير الشام و"النموذج الجهادي الجديد"
لم يكن غريباً أن يرحّب القيادي في هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً)، عبد الرحيم عطّون، بالتحوّلات التي حدثت في خطاب حركة طالبان وسلوكها السياسي الجديد، بعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان، ففي محاضرة له قبل أعوام، بعنوان "الجهاد والمقاومة في العالم الإسلامي... طالبان نموذجاً"، وجدت الهيئة في نسخة طالبان الجديدة نموذجاً لما تريد أن ترسو إليه بعد التحوّلات المتعدّدة التي مرّت بها منذ تأسيسها قبل أكثر من عقد (2011)، بوصفها جزءاً من الدولة الإسلامية في العراق (داعش لاحقاً)، ثم الانقلاب على "داعش"، ومبايعة تنظيم القاعدة، ولاحقاً الانسلاخ منه والصراع معه منذ العام 2017، وتصفية الجماعات الجهادية المرتبطة بالخط الجهادي التقليدي.
لم تتوقّف تحوّلات هيئة تحرير الشام على الخطاب السياسي والأيديولوجي، بل حتى وصلت إلى العمل على تصفية الأجنحة المتشدّدة في أوساط الهيئة نفسها، بخاصة المحسوبين على "القاعدة"، ما أدّى إلى انشقاق تنظيم حرّاس الدين (يتشكل من قيادات أردنية قاعدية)، ثم الدخول في صراع بينه وبين الهيئة، وتصفية أغلب قياداته إما من خلال طائرات التحالف الدولي أو من خلال الهيئة على الأرض، ما أثار تساؤلاتٍ عديدة حول شبكة علاقاتٍ خفيّة غير معلنة للهيئة أو عناصر منها مع جهات دولية وإقليمية عديدة.
هل ما تمّ كشفه في الشهر الماضي (أغسطس/ آب) من وجود شبكة تضم مئات الأشخاص، ممن وُصفوا بالعمالة للتحالف الغربي، جزء من هذه الشبكة الكبيرة؟ بالضرورة هذا وارد، بخاصة ما يتعلق بالشخصية الجدلية القيادية، أبو مارية القحطاني، الذي كان يعدّ بمثابة الرجل الثاني في التنظيم، وأحد أبرز منظّري التحوّلات البراغماتية في الهيئة، ومن دعاة الانفصال عن الجهادية العالمية، وقد صدر بيان من الهيئة يتهم فيه أبا مارية ضمناً بالقيام باتصالات بصورة شخصية!
ولعلّ من يعرفون القحطاني لن يستغربوا اتصالاته بالفعل مع دول وحكومات في الخارج، فهو معروف بذلك، لكن الغريب اعتبار ذلك تهمة الآن، بالرغم من أنّها مسألة معروفة سلفاً، بل وربما تمثل جزءاً من مهمّاته السريّة داخل الهيئة، ما قد يثير تساؤلاتٍ عديدة عما إذا كانت هنالك أسباب أخرى، مرتبطة مثلاً بالصراع بينه وبين تياراتٍ أخرى في الهيئة أو حتى مع الجولاني نفسه، وما يطرح بدوره، أيضاً، عن حجم الاختراقات وعلاقات الأجنحة المختلفة في الهيئة بالقوى الدولية والإقليمية المختلفة.
اتجاهان تقليديان في السلفية الجهادية، منذ أعوام: الأول تيار "القاعدة" والجماعات المرتبطة بها. والثاني، يمثّله تنظيم الدولة الإسلامية
دعونا نعود من هذه النقطة إلى محاضرة عطّون عن نموذج "طالبان" الذي يتضمّن المثال المنشود لدى هيئة تحرير الشام، ومن المعروف أنّ هنالك اتجاهين تقليديين في السلفية الجهادية، منذ أعوام: الأول تيار "القاعدة" والجماعات المرتبطة بها التي تصرّ على مبدأ "عولمة الجهاد"، والتركيز على الصراع مع الولايات المتحدة والغرب (العدو البعيد). والثاني، يمثّله تنظيم الدولة الإسلامية الذي أعاد هيكلة الأيديولوجيا الجهادية بصورة جديدة، وأسّس ما نطلق عليه نظرية "دمج الأبعاد"؛ أي الجمع بين العدوين، القريب والبعيد، في القتال، وإقامة الدولة الإسلامية، والتحوّل نحو تكتيكات وفتاوى أكثر تطرّفاً من "القاعدة" نفسها، فيما بدأت أوساط قيادية في التيّارات الجهادية تدعو إلى بناء نموذج جديد، على غرار النسخة الثانية من "طالبان"، وهو نموذج يستمد جذوره الفكرية والأيديولوجية من المراجعات التي كان أسامة بن لادن يقوم بها في آخر أعوامه، وكشفت عنها وثائق أيوت أباد (حيث قبض عليه)، وتدفع نحو تخفيف الصيغة العالمية للجهاد، واندماج الجماعات الجهادية بالمجتمعات المحلية، وتمثل جبهة النصرة بنسختها الأولى نموذجاً عنها، إذ عملت على إخفاء علاقتها بـ"القاعدة" حتى كشف أمرها أبو بكر البغدادي (بعد طلبه من الجولاني مبايعته)، ثم شكّل انتصار حركة طالبان والصيغة التي وصلت إليها من خلال مفاوضاتها مع الولايات المتحدة إلهاماً لهذا التيار؛ وهو التخلي عن عبء اسم القاعدة وكلفته الكبيرة، والانكفاء إلى داخل الحدود، والجمع بين المضمون الجهادي والمحلي (الوطني)، والتكيّف مع موازين القوى الدولية والإقليمية.
عمل العطّون ومعه منظّرون آخرون (منهم أبو قتادة الفلسطيني، المنظّر الجهادي الأردني المعروف، الذي دعم تحوّلات هيئة تحرير الشام ودافع عنها، في مقابل المنظّر الأردني الجهادي الآخر أبو محمد المقدسي، الذي تبنّى تنظيم حرّاس الدين وبقي على ولائه الأيديولوجي لفكرة القاعدة)، على محاولة التجسير بين نموذج "طالبان" من جهة، وحركة حماس التي تمثّل الإسلام الوطني الجهادي، في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، من جهةٍ ثانية، ونموذج هيئة تحرير الشام من جهةٍ ثالثة، على اعتبار أنّ الأخيرة تحارب أيضاً احتلالاً إيرانياً وجيشاً روسياً على الأراضي السورية. وبالتالي، ما أراد العطّون وأنصار الاتجاه الجديد قوله إنّهم لا يختلفون عن نموذجي حركتي حماس وطالبان، وأنهم (هيئة تحرير الشام) انتقلوا من مقولات الجهادية العالمية أو القاعدة إلى مفاهيم الجهادية الوطنية.
يحرص الجولاني ورفاقه دوماً على إيجاد أي مساحةٍ للمصالح المشتركة مع الأتراك والغربيين، للتأكيد على أنّهم يمثلون شريكاً مناسباً في المعادلة السورية
بالطبع، لم تقف المسألة عند حدود الخطاب الأيديولوجي، بل حتى كان هنالك اهتمام شديد بالصورة الإعلامية الموجّهة إلى الغرب، إذ حرص قادة الهيئة على تقديم رسائل ودّية عديدة واضحة نحو القوى الغربية والدولية، بل حتى على صعيد المظهر الخارجي لهم، واللغة المستخدمة، والعلاقة مع الإقليات المسيحية، وربما تكون العلاقات والشبكات السريّة لأبي مارية القحطاني المزعومة جزءاً من هذا الخط، قبل أن ينقلب عليه الجولاني!
هل يمكن أن ينجح هذا النموذج الجديد، هيئة تحرير الشام (الجهادية الوطنية - المعتدلة)، في إقناع الغرب والخروج من دائرة مكافحة التطرّف والإرهاب؟ لا تتعلق المسألة بقيم أو مبادئ، بل بموازين قوى ومصالح استراتيجية وجيوبوليتيك، وهذا ما يدركه الجولاني ورفاقه. لذلك يحرصون دوماً على إيجاد أي مساحةٍ للمصالح المشتركة مع الأتراك والغربيين، للتأكيد على أنّهم يمثلون شريكاً مناسباً في المعادلة السورية مقارنةً بالإيرانيين والروس ونظام الأسد و"داعش".
من زاوية أخرى، لا يعني ذلك بالضرورة نجاح التنظيم بإقناع الغرب، فما زالت الأجندة الغربية في سورية غير واضحة وقصيرة المدى، وما زالت المخاوف من استعادة التجربة الأفغانية بمثابة شبح مهيمن على السياسيين الأميركيين. أكثر من ذلك، من قال إن الغرب يقبل بنموذجي حركتي حماس وطالبان، فهما موجودتان بأمر الواقع والجيوبوليتيك وليس بسبب الشرعية الغربية.