واقع ليبيا بين اجتماعَي لندن وبوزنيقة
مع انعقاد اجتماعَي لجنة الاتصال حول ليبيا في لندن، ولقاء نواب مجلسَي النواب والأعلى للدولة في بوزنيقة بالمغرب، يتراكم التداعي الدولي لمناقشة تحدّيات الأمن والاقتصاد والانتخابات، وفي سياق مترابط، يجتمع الليبيون تحت مظلّة الأمم المتحدة ومن دونها، لزيادة المحتوى الوطني في أيّ عملية سياسية، غير أنه رغم المشوار الطويل، لم تجد توصياتها الختامية طريقها إلى التنفيذ، لتتداعى الأسئلة حول حقيقة التقدّم في الحلّ السلمي للمشكلة الليبية، وصلاحية نمط التفكير الدولي في تلبية حاجات الانتقال السياسي والخروج من الدائرة المفرغة لفشل الدولة.
على غرار مؤتمر برلين في 2020، انعقد اجتماع لجنة الاتصال الدولية حول ليبيا في لندن (4-6 ديسمبر/كانون الأول 2024) تحت مظلّة الخارجية البريطانية، على مستوى سفراء الدول المشاركة، ليهيمن الطابع الفنّي على متابعة تداعيات مؤتمر برلين، واجتماعات جنيف ومدى التقدّم فيها. وكما في الاجتماعات السابقة، شاركت بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا والولايات المتحدة، بالإضافة إلى مصر وتركيا وقطر، وكذلك الإمارات والسعودية، فيما استُبعِدت مشاركة الجهات الليبية. فيما كان لافتاً، انشغال اجتماعات لجنة الاتصال بتمكين البعثة الدولية قناةَ تدويل للشؤون الليبية وإخضاعها لقرارات مجلس الأمن، تحت ذرائع تفوق التهديد الأمني لشرعية المؤسّسات المحلّية ونقص أهليتها في ممارسة السيادة وحفظ الأمن الداخلي.
يشكّل التنافس العسكري الأميركي الروسي عاملاً رئيساً في تنشيط انقسام الدولة الليبية وإعاقة الانتخابات
وكما الاجتماعات السابقة، حاول اجتماع لندن اقتراح عملية سياسية حاسمة تؤدّي إلى عَقد الانتخابات وإنهاء انقسام المؤسّسات، وبحسب وصف ممثّلة البعثة الدولية، ستيفاني خوري، يُعدّ اجتماع لندن تشاورياً لحشد دعم المشاركين لعملية سياسية جديدة. ولذلك، تشابه جدول أعمال الاجتماع التطلعات الدولية السابقة، كان في مقدّمتها، تشكيل لجنة حوار جديدة، تكون مهامّها اختيار حكومة لإدارة البلاد نحو الانتخابات وتوحيد المؤسّسات وتوسيع مشاركة الأطراف الإقليمية والدولية، وهي دائرة إعادة إنتاج العجز السياسي نفسها. وهنا، يصعب تصنيف اجتماع بريطانيا حراكاً دولياً، فهو أقرب إلى عمل تقليدي، تحاول فيها الدول الغربية توجيه مسرح المناقشات في إطار سياسة طويلة المدى للبحث عن الصيغة الملائمة للتموضع في نطاق الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وهنا، يكشف تواضع النتائج جانباً من الاهتمام بمسح المستجدّات السياسية على حساب تطوير الحلّ السلمي أو سحب الأطراف الليبية نحو تقليل فجوة التصوّرات حول مستقبل ليبيا.
وفي مسار آخر، عقد 60 عضواً من مجلسَي النواب والأعلى للدولة في بوزنيقة (18 و19 ديسمبر 2024)، اجتماعاً تشاورياً لمناقشة استكمال المرحلة التمهيدية حتى الوصول إلى الانتخابات. كان توجّه الليبيين إلى العمل من دون مشاركة البعثة الدولية اقتراباً من مفهوم الحلّ الوطني. وبشكل عام، بدت المخرجات الصادرة من الاجتماع متأرجحةً بين ما تحقّق من تقدّم في السنوات السابقة وانحسار القدرة على تجاوز العقبات المزمنة. فمن جهة، يمكن الإشارة إلى جوانب التقدّم في البناء على ما أُنجِز في خريطة جنيف (2021)، إذ يمكن النظر إليها استكمالاً للمرحلة الانتقالية الجارية، فقد نتج عن المشاورات الالتزام بخريطة طريق المرحلة التمهيدية، وقانوني الانتخابات رقمي 27 و28 لسنة 2022، لكنّها دخلت، من وجهة أخرى، في تفاصيل تشكيل لجان سياسية وعسكرية واقتصادية، وحدّدت مهامّها في دعم الوصول إلى الانتخابات بتهيئة البيئة الإدارية والأمنية. وبغضّ النظر عن صعوبة تغيير الحكومة، يواجه تشكيل خمس لجان جديدة أعباءَ الانقسامات في المجلسين، واستهلاكَ الوقت في بدء الخطوة الأولى في إقرار التشكيل أو تقنين مخرجاتها.
وكعادة السياسة في ليبيا، تزاحمت ردود مختلفة تجاه الاجتماعين، تنوّعت بين الترحيب والرفض والتحايل. اختلفت الحكومتان في تفاهمات بوزنيقة. فقد رأت حكومة الشرق الليبي تنفيذها تحت إشراف دولي من أعضاء لجنة الاتصال حول ليبيا، وكانت أكثر قبولاً بـ"إنشاء سلطة تنفيذية من مجلس رئاسي وحكومة جديدَين"، وعلى خلاف هذا الموقف، تمسّكت حكومة الغرب الليبي بتسليم السلطة لحكومة منتخبة ورفض قرارات المجلسين، كما هدّد المجلس الرئاسي بالامتناع عن تنفيذ أيّ مقرّرات لا يشارك في صياغتها. وإلى جانب هذين الخلافَين، خرجت البعثة الدولية بموقف ثالث، كان الهدف منه تجاوز الخلافات المستمرّة بين المجلسَين، لتعيد اقتراح تشكيل لجنة خبراء ليبية، تكون مهمّتها اختيار حكومة توافق، وهي الأفكار ذاتها التي طرحتها البعثة في بداية سنة 2023.
على أيّ حال، يأتي انعقاد الاجتماعَين تحت ضغط اهتزاز وضعية البعثة الدولية بسبب الخلاف الدولي على التمديد لها، وسيولة الوضع الدستوري لاعتماده على تجديد مجلس الأمن لمشروعية اتفاق الصخيرات الموقع في 2015. كما يدفع التنافس العسكري على ليبيا إلى زيادة الترابط في الصراعات الداخلية والخارجية، خصوصاً ما يرتبط بالتوسّع الروسي في أفريقيا، بالإضافة إلى تصنيف ليبيا واحدةً من ثغرات الأمن الإقليمي.
تكتمل خطورة المشهد الليبي مع تدهور مقوّمات بقاء الدولة، واندلاع النزاع على القطاع المصرفي وتذبذب تشغيل موارد الطاقة
يواجه التقدّم المحدود في الاجتماعين تحدّيات استجابة البيئة الداخلية والخارجية، ورغبتها في تنفيذ الإجراءات اللازمة لانعقاد الانتخابات. يشير الاتجاه العام إلى تنامي معوقات الاستقرار، إذ لا تعمل الفواعل النشطة في ليبيا لتكوين قوة مركزية بقدر ما تتضافر على الاستثمار في الفراغ السياسي، لتطيح إمكانيةَ بناء قوة حامية للانتقال السلمي. لكنّه يظلّ محلّ جدل عاملَين جوهريَّين؛ يتمثّل الأول في المكانة الضعيفة للمجلسَين في السياسة الليبية، فإلى جانب اتساع التنازع بين العديد من الأطراف، لا يتمتّع أيّ من المجلسَين بالقوة الكافية لتشغيل اللجان الجديدة أو إقرار أعمالها. في المرحلة الحالية، لا يوفّر تشظّي مجلس الدولة وعيوب تمثيل مجلس النواب للمجتمع الليبي أرضيةً كافيةً لتحمّل الالتزامات الواردة في أوراق اللجان الفنّية، خصوصاً نشوب النزاع على الصلاحيات المشتركة، إذ تتزايد تطلّعات التجاهل وإطاحة السلطة والدولة، ليس فيما يرتبط بنفوذ الجماعات المسلّحة فقط، ولكن في التهديد المستمرّ من وقوع المؤسّسات العامّة رهينةً لدوائر النفوذ غير الرسمية.
وتكتمل خطورة هذا المشهد مع تدهور مقوّمات بقاء الدولة، خصوصاً مع اندلاع النزاع على القطاع المصرفي وتذبذب تشغيل موارد الطاقة. وتعمل هذه المشكلات في تمكين دوائر النفوذ المحلّي من صرف الإيراد المالي وتحويله مكتسباتٍ خاصّةً خارج المالية العامّة، لتنتقل أعراض هذه العيوب إلى النظام المصرفي، إذ إنه على الرغم من تجاوز أزمة المصرف المركزي، يواجه القطاع النقدي تحديات مُميتة، لا تتعلّق بمستوى الفساد بقدر ما ترجع إلى غياب حكومةٍ قادرةٍ على حماية السياسات النقدية أو توحيدها، لتظلّ مشكلات إدارة الموارد واحدةً من معضلات الانتقال السلمي.
أما الثاني، فيتمثل في استقرار القيود الخارجية على مؤسّسات ليبيا، فإلى جانب مهام إشراف البعثة الدولية، يضع تغلغل نفوذ الدول في مفاصل المؤسّسات الليبية تحت مساومات كثيرة للخروج من التنافس الدولي على السياسة والاقتصاد والأمن. ويعكس المشهد العسكري في غرب ليبيا، وكثافة النفوذ الروسي في شرق البلاد، بيئةً خصبةً لانهيار أيّ عملية سياسية. فمن جهة، يشكّل النزاع حول تعريف الجيش الوطني واحداً من المشكلات المؤجّلة، التي تؤثّر في مسار الوحدة السياسية والترابية، وكان تواضع مسوّدات لجنة 5 + 5، أو الخلاف عليها، انعكاساً لتشتّت منظور تشكيل الجيش الوطني. في النهاية، تقود هذه الممارسات إلى الاختلال المؤسّسي واختلاف مسارات بناء السلطة.
ومن جهة أخرى، لم يقتصر تأثير المُكوّن العسكري؛ سواء ما يتعلق بنشر القوات الأجنبية والمحلّية أو تكديس السلاح، في إضعاف عمليات بناء سلطة مركزية، بل أضرّ بانسجام العسكرية الليبية. ونقيضاً للعمل الجماعي، يشكّل التنافس العسكري الأميركي الروسي عاملاً رئيساً في تنشيط انقسام الدولة وترسيخ الوضع القائم لإعاقة الانتخابات. تدفع تلك العلاقات العسكرية مع البلدَين لتبديل أولوياتها من البناء إلى الانخراط في مشاريع ومهام أمنية. في هذه السياقات، تعكس الزيارات المتتابعة للمسؤولين العسكريين الأميركيين والروس حدّةَ التنافس على احتواء ليبيا، واستنزافها في صراعات إقليم الساحل، بجانب تقييد مصالح الدول الأخرى وإرهاق الفواعل الليبية.
تتفاقم هذه التحدّيات مع مساعي الدول لهيكلة علاقاتها العسكرية، فكما تُحفَّز "القيادة الأفريقية" على عسكرة التنافس على ليبيا. فمن جهة، بدا الغرب أكثر انشغالاً بمكافحة الشركات الأمنية الروسية في ليبيا، ومنها، فرض بريطانيا عقوبات على ثلاث مجموعات، منها "أفريقيا كوربس" الداعم الخلفي لمجموعة فاغنر، وذلك لتقييد نشاطها في ليبيا ومالي وأفريقيا الوسطى. ومن جهة أخرى، تعمل روسيا لربط ليبيا بمشروع للفيلق الأفريقي.
وبغضّ النظر عن الاختلاف حول تقييم الاجتماعات المحلّية والدولية، يوضّح ضعف الاستجابة الليبية لسياسة إعادة البناء وتوفير شروط الانتقال السياسي الدواعي المستمرّة لإبقاء ليبيا تحت المناقشات الدولية والإقليمية، فتكوّنت علاقة ترابطية فيما بين كثافة التدخّل الدولي وتشتّت المؤسّسات الليبية ونضج الانقسامات. فخلال العام الجاري، رصدت تقارير ممثلي الأمم المتحدة لدى ليبيا ملامح الانهيار السياسي والاقتصادي من دون طرح مقترحات ابتكارية. وكانت توضيحات نائبة الممثّل الخاصّ للشؤون السياسية (20 أغسطس/آب 2024)، أقرب إلى مراقبة انهيار المؤسّسات وتحرّكات المُسلحين في غرب ليبيا، وتمدّد الجيش الوطني الليبي (القيادة العامّة) في مساحات في الجنوب الغربي، متخلّية عن إعمال صلاحيتها الواردة في القرار 2009/2011، لتعكس انخفاض الرغبة الدولية في ضبط المشروعية السياسية، والقبول بأداءٍ متواضعٍ للحكومة الانتقالية والمؤقتة.
المداولات الدولية والمحلّية لم تُحدث تقدّماً شكلياً أو موضوعياً في الشأن الليبي، وظلّت تدور في تنازع الصلاحيات وإدارة التفكّك
لسنوات سابقة، انتهى تقييم الاجتماعات الدولية للحالة في ليبيا إلى أن بقاء المؤسّسات في قيد الحياة مؤشّراً كافياً على وجود الدولة، إذ اعتبرت تسوية النزاع على المصرف تقدّماً نوعياً، والتنسيق في مكافحة الإرهاب دليلاً على فاعلية الأمن، فيما لا تتكيّف علاقاتها مع تقاسم مؤسّسات الدولة، غير أن هناك تقييمات (تقرير الكونغرس الأميركي في 25 أكتوبر/تشرين الأول) أشارت إلى الترابط بين عدم الاستقرار ونفوذ القادة المحلّيين والتحالفات المدعومة من رعاة أجانب.
بشكل عام، تكشف هذه الأنشطة والتفاعلات أن المداولات الدولية والمحلّية لم تُحدث تقدّماً شكلياً أو موضوعياً، وظلّت تدور في تنازع الصلاحيات وإدارة التفكّك، بحيث صارت المقترحات كلّها سياسية، تقود البلاد نحو بعثرة الموارد وتفضيل الشخصي على المصالح العامّة، لتُطيح هذه الممارسات مقوّمات استنهاض الدولة، وهي حالة يتوقّف الخروج منها على توفّر الإرادة الليبية المشتركة.