وحشة العيد في مخيم اليرموك
لم يكن العيد لأطفال مخيم اليرموك الفلسطيني مثل أعياد غيرهم من الأطفال. تعيدني صباحات كل عيد إلى أيامٍ خلت، عندما كان العيد هناك يبدأ بالصلاة تليها مواكب أغصان الآس السائرة نحو مقابر الشهداء. لم يكن عيد الأطفال في المخيم يبدأ بثياب جديدة أو هدية كانت ذات يوم أمنية. لم تكن فرحة العيد تبدأ قبل زيارة مقابر الشهداء، للسلام على من قضوا نحبهم على طريق التحرير، وتعطير أضرحتهم بأغصانٍ من الآس يانع الخضرة فواح العطر. تستيقظ شوارع المخيم صباح كل عيد مع مواكب الآس السائرة نحو مقبرة الشهداء، بينما تردد المساجد تهاليل العيد، يجرّ الأطفال خطاهم نصف النائمة، ويلحقون بكبار يسابقون ضوء الفجر للقاء الأحبة الشهداء.
مع خيوط شمس اليوم الأول من كل عيد، تُشرق أكاليل الآس على قبور الشهداء، يتحلّق أهل الشهداء حول القبور. يشكون لمن تحت التراب سوء الحال والأحوال. سمعت مرّة أحدَهم يحسد الشهيد على رحيله المبكر والخلاص من العيشة الزفت. امراة تلبس الثوب الأسود، وتبكي بحرقة وهي تضع أكاليل الآس على قبر ابنها، وتلومه على الرحيل قبل الزواج، وتركها بلا حفيد يُسامر وحدتها الموحشة. تنثر الأمهات أغصان الآس على القبور، وترشّها بالماء البارد المعطّر بالفاتحة وما تيسر من الدعاء. لا ندري إن كانت مثل هذه الزيارات في كل عيد تُفرح الشهداء أم أنها تنغّص عليهم نعيم الحياة تحت التراب. لا تغادر الأمهات قبور الأحبّة قبل توزيع ما صنعن من كعك العيد المعجون بماء الورد. تزيح روائح الآس والكعك رائحة الموت، وتصير المقبرة ساحة عيد وحياة.
كنت أرى هذا الطقس كل عيد، فقد كانت مواكب الآس تمرّ من باب منزلنا الواقع على الطريق ما بين المسجد ومقبرة الشهداء. لم أسأل يوما عن العلاقة بين الشهداء وشجرة الآس أو الحمبلاس، وهي شجيرة منشؤها حوض البحر المتوسط، وتُعرف في سورية باسم آس. أما في لبنان والعراق فتعرف باسم عشبة إلياس، ويطلق عليها ريحان في المغرب، ومرسين في تركيا، وتعرف بـ"common myrtle" في الإنكليزية. أوراقها دائمة الخضرة، صغيرة، رمحية الشكل، داكنة الخضرة، وتنشر أزهارها البيضاء رائحة عطرية فوّاحة. يُشاع أن أوراق الآس مفيدة للصحة ولعلاج الحالات المصابة بالشلل، ويمكن أن تُستخدم في تطهير الجروح وتسكين الأوجاع والآلام. هل يُفسر هذا سرّ العلاقة بين الآس والشهداء. لا ندري إن كان الشهداء يحبّون هذا النوع من الشجر أم يفضلون غيره. أم أن في الآس فائدة لتسكين آلام الأحياء وأوجاعهم أكثر من فائدته لتضميد جراح الشهداء.
على أي حال، وَضعُ أغصان الآس على قبور الشهداء ليس بالبدعة أو التقليد الطارئ، فهناك زعم إن الفراعنة عرفوا الآس، ورسموا أغصانه على جدران المقابر، محمولاً في أيدي الراقصات. كما عرف الرومان والإغريق الآس لصنع أكاليل النصر. تقول أساطير منشورة إن شجر الآس، أو الميرتل، يرمز للكرم الإلهي. وبحسب أحد التفسيرات، "عندما طُرد آدم من الجنة سمح له أن يأخذ معه القمح، والبلح، والآس، أهم الزهور العطرية". أما في الأساطير وطقوس الإغريق القدماء، فيعتبر الآس رمزًأ للجمال والنقاء، وارتبط بآلهة الحب والجمال اليونانية، أفروديت، التي اختبأت تحت شجيرة الآس. ومنذ ذلك الوقت، درجت عادات ارتداء أكاليل ميرتل في حفلات الزفاف كرمز للحب بين الزوجين. أما في روما فإكليل أوراق الميرتل مقدّس، وفقاً لأرسطو، يعقد تكريماً للأبطال وصانعي الأمجاد.
منذ سنوات، تمنع حواجز القوات الروسية والسورية أهالي المخيم من الوصول إلى مقبرة الشهداء في الأعياد بذرائع أمنية. جفّ العيد ويبست مواكب الآس في شوارع مخيم اليرموك منذ غاب أهله في مقابر ومنافٍ وملاجئ قسرية. عيد آخر يمضي، ولا شيء يُؤنس الشهداء في مخيم اليرموك، لا آس ولا كعك ولا أمهات يرششْن الماء المعطر بالدعاء.