ورطة التغلّب والظاهرة الاستبدادية
يرتبط فعل التغلب بتلك الرؤية السياسية في عالم المسلمين، خصوصاً في ما يتعلق بمسألة الخلافة، وضرورة أن تكون تلك الخلافة مستندةً إلى شورى المسلمين. ويُعَدّ تغلب معاوية بن أبي سفيان على منصب الخليفة حدثاً طارئاً على النظام السياسي الإسلامي آنذاك، فقد أوجد واقعاً سياسياً جديداً، يختلف عن أمر الخلافة الراشدة التي حازها من وصل إلى سدّة الرئاسة من طريق البيعة السياسية الشرعية المتعارف عليها. هذا الواقع السياسي المستجد واكبه في الفكر السياسي الإسلامي اتجاه دفع بعض العلماء والمفكرين إلى القبول بإمامة المتغلّب كأمرٍ سياسي واقع لا يمكن التصدّي له آنذاك، ولا يمكن دفعه إلا بوجود فتنةٍ شديدة. إلا أنّ هذا الاتجاه - في واقع الأمر - قد أُسرف فيه عند بعض هؤلاء (وبعضهم من الفقهاء)، حينما تبنّوا مجموعة من المقولات انتشرت في جنبات هذا الفكر السياسي، تقوم على قاعدة تمرير حال الاستبداد، والتغاضي عن شروط العدالة. من مثل مقولات "ستون سنة بسلطان ظالم خير من ليلة بلا سلطان"، و"سلطان غشوم خير من فتنة تدوم"، و"من اشتدّت وطأته وجبت طاعته". كل تلك المقولات وجدت لها تسويغاً في سياقات درء الفتنة والحفاظ على استقرار الأمة، ولم يكن يعلم هؤلاء أن هذا الاختيار قد يجلب استبداداً، ولا يوقف فتنة، بل صار الاستبداد، في هذا المقام، هو الفتنة الحقيقية في الأمة، حينما فتحت باب القوة والتغلب ذا الطبيعة العسكرية، ليكون مدخلاً للوصول إلى السلطة.
من المهم في هذا المقام أن نؤكد مسؤولية ميراث التغلب في الممارسة السياسية في تاريخ المسلمين عن الإسهام في تراث الظاهرة الاستبدادية وذاكرتها، وهو أمر لا يجوز الالتفاف عليه أو التبرير له. وحين اشتدّت هذه الحيرة أوقعت الفقهاء في "ورطةٍ" كان يصعب الخروج منها بحلّ حاسم للقضاء على التغلب. لذا، رأى الفقهاء الذين أجازوا إمامة المتغلب وإمارته في التغلب ضرورة ملجئة، ولم يروا فيه ضرراً. والواقع أن هذه الرؤية المبرّرة فقهياً لم تكن تتوقع أن يتحوّل التغلب من ضرورة إلى ضرر. ولم يلبث أن تحوّل الأمر من حال الضرورة الاستثنائي إلى الضرر العام الاستبدادي. وقد رأينا مع دائرة التغلب أن القوة لم تتوقف عند المصلحة المرجوّة منها، بل تحوّلت باختلاط ممارساتها وجنوح تطبيقاتها إلى ضررٍ جديد يكرّس الفتنة ويزيد من إراقة الدماء.
أصل الخلافة تكليفٌ بإقامة العدل وصيانة الحقوق، وضبط الأمن، وما يقوم بتدبير الشأن العام والنهوض به
لقد شهدنا كيف أن بعض الفقهاء تخلوا عن عديد من شروط الإمامة، وكان من بينها شرط العدالة، كما يقول عبد اللطيف المتديّن في رسالته عن "إمارة التغلّب في الفكر السياسي الإٍسلامي"، التي كانت تحت إشراف من الكاتب، "وقد ركزوا بالمقابل على مفاهيم أخرى تتناسب مع الظروف المستجدة كمفهومي الفتنة والفسق"، و"وصلت اجتهاداتهم إلى تجويز أشكال جديدة للسلطة، والدعوة إلى القبول بها، فمررت هذه الاجتهادات في بداية الأمر قبول التغلب ومنحه الشرعية إلى مرحلة أخرى قبول الإمام الفاسق ومنحه العفو". وقد كان الأصل عند الفقهاء أن الفاسق أو الظالم لا يتولّى على المسلمين ولا تستمر إمامته، لكن الخروج عليه، إذا كان سيجرّ فتنة، فمن الأولى إعمال قواعد ارتكاب أخفّ الضررين، والضرورات تبيح المحظورات، فقد رافقت هذه القواعد مختلف مراحل تشكل نظرية الخلافة، وأشرفت على تحوّلها من مستوى التماسك النسبي في عهد الخلافة الراشدة إلى مستوى التفكّك المطلق في عهود التغلب. فليس من السهل التنبؤ بالشكل الذي كانت ستأخذه النظرية، إذا استمرّت حالة الضرورة في الازدياد، واستمر الفقهاء في الاجتهاد على هذا الطريق. ومن المؤسف حقاً أن هذا الذي ابتدأ جوازاً واستثناءً، صار قاعدة وعرفاً مقبولاً، ولم يلحظ هؤلاء أن هذا لم يكن إلا خروجاً عن مقتضى النظرية التعاقدية للبيعة في ولاية المسلمين العامة.
ولا يمكننا أن ننكر هذا الأثر في تمكين الحالة الاستبدادية، إذ تعدّدت أشكال التغلب في العصر الحديث، التي من أبرزها الاستناد إلى حال القوة في فتح الطريق إلى سلسلة من الانقلابات العسكرية، الأمر الذي يجعلنا نؤكد أن التغلّب وإقراره كان من أهم المداخل التي جعلت للانقلابات العسكرية غطاءً في هذا المقام، وهو ما يفرض علينا أن نهتم بهذه القضية والموقف منها في إطار مواجهة الاستبداد والمستبدّين، خصوصاً حكم العسكر المستند إلى حكم القوة، ذلك أن هذه الانقلابات العسكرية لم تكن إلا انقلاباً في عالم المعادلات السياسية، تحاول أن تجعل القوة أساساً للاستيلاء على السلطة، مضحية بأصول الفكرة التعاقدية، والبيعة، والشورى، والرضى، والاختيار، وباتت هذه الانقلابات العسكرية هي التي تهدّد الاستقرار في النظم السياسية المعاصرة.
الشرعية، ابتداءً، هي شرعية تنصيب، وممارسة، هي شرعية رضى، ومحصلة، هي شرعية إنجاز
ومن المهم أيضاً أن نؤكد أننا مع هذا التقسيم للتغلّب الأصغر، والتغلّب الأكبر؛ فالتغلب الأصغر يشير إلى تعلقه بفساد الأداء السياسي والإخلال بوظائف السلطة، فيما يشير الآخر إلى فساد أخلاق الذين أسندت إليهم السلطة في غياب شرط العدالة، وأين كان هذا التغلّب، أصغر أو أكبر، فإن ذلك كان منافياً للقواعد التأسيسية في الفقه الإسلامي، ذلك أن التولي على الرعية منوطٌ بتحقيق المصلحة، أو ما يمكن التعبير عنه بواجبات الإمام وحقوق الأمة، وأن المصالح العامة لا يمكن أن تقوم على قاعدةٍ من الظلم والاستبداد، فأصل الخلافة تكليفٌ بإقامة العدل وصيانة الحقوق، وضبط الأمن، وما يقوم بتدبير الشأن العام والنهوض به، وأن المعادلة الحقيقية في هذا المقام هي التي تجمع بين ضرورة السلطة والحاجة الملحّة إلى الاستقرار من جانب، وضرورة الشرعية في الوقت ذاته، القائمة على قاعدة من الرضى وسياسات العدل والشورى من جانب آخر، ولا يمكن دفع ضرورة الشرعية بضرورة السلطة، ولا الاستغناء عن ضرورة السلطة عن ضرورة الشرعية. وهو أمر كفيل بسدّ كل منافذ الاستبداد ومحاولات تسرّب الظاهرة الاستبدادية في حياة الناس، وإقرار الحالات التي تتعلق بالاستيلاء على السلطة بالقوة.
ومن هنا، على الذين يتبنّون هذه المقولات والممارسات ويعيدون إنتاجها في عالمنا المعاصر (رئيس الضرورة)، معتقدين أن ذلك سائغ في التاريخ السياسي للمسلمين، أو التبرير للحاكم باستخدام القوة (اضرب في المليان)، وما ترتب عليها من سياسات طغيانية، عليهم أن يفطنوا إلى أن تلك النماذج التاريخية تؤكّد أن ظاهرة التغلب والاستبداد لم تكن إلا تدشيناً لطريق الظلم، وفتح باب الفتنة واسعاً، وإراقة الدماء، وأنهم في إطار تبنّيهم ضرورة السلطة واستقرارها ضمن أفكار تتعلق بـ"الدولتية" إنما تشكل خطراً كبيراً، حينما تحاول أن تسوّغ كل مظاهر الاستبداد ضمن مقولات غير منضبطة؛ مثل "الدفاع عن هيبة الدولة" و"الحفاظ على استقرارها"، فجوهر الدولة هو القيام بالوظائف الأساسية التي تتعلق بعموم المواطنين وتحقيق الأمن الإنساني والقومي. أما عدم القيام بذلك، بل والقيام بضده، ثم الحديث عن استقرار وضرورة السلطة، فهو أمر خطير لا يحقق، بأي حال، الغرض التأسيسي من ارتباط السلطة بالشرعية، والشرعية، ابتداءً، هي شرعية تنصيب، وممارسة؛ هي شرعية رضى، ومحصلة، هي شرعية إنجاز، ومن غير ذلك لا يمكن بأي حال إلا القبول بالمعنى الحقيقي للدولة، ووظائفها الجوهرية والمصلحة العامة ضمن إنجازات حقيقية.