"وسط البلد"... عمّان المكان والزمان
في كتابه السيرة "وسط البلد ... خمسون عاماً في عمّان" (دار اليازوري، عمّان، 2024)، يأخذنا الباحث الأردني محمد أبو عريضة في رحلة شائقة عبر فضاءات عمّان القديمة، وأجواء وسط البلد، بتفاصيلها وشخصياتها المتنوّعة، وأمكنتها الحميمة، ويضع عشّاق وسط البلد المُهدَى لهم الكتاب وجهاً لوجه أمام الحنين.
يكتب المؤلف في الإهداء: "إلى عشّاق وسط البلد، إلى من مرّوا من هنا، إلى من سيمرّون من هنا، إلى من عادوا إلى هنا". ويكتب الشاعر مهدي نصير في مقدّمة الكتاب: "وسط البلد سيرة لقاع عمّان العميق من سبعينيّات القرن الماضي، حضر فيها مقهى الأوبرج ومقهى الجامعه العربية وساحة فيصل ومطعم هاشم وكشك الثقافة العربية وكنافة حبيبة وشارع السلط".
يسرد أبو عريضة في كتابه الممتع والمختلف قصّةَ المدينة وتحوّلاتها الاجتماعية والسياسية والديمغرافية، إثر موجات الهجرات إليها منذ أواخر الستينيّات. يصف الأمكنة بتفاصيلها الدقيقة المقيمة في الذاكرة الجمعية من المقاهي العريقة، وزبائنها من سياسيين ومعارضين وعمّال وموظّفين وتجّار ومعدمين ومشرّدين ومجانين وهامشين، ويوضح تأثير الأحداث السياسية الجسيمة التي اجتاحت المنطقة في تركيبة المدينة وهُويَّتها المختلطة، الجامعة للتناقضات كلّها في حيّز ضيق، أتاح إمكانية التواصل الإنساني من دون حواجز طبقية أو معرفية أو مناطقية.
ويسرد الكاتب الجانب الخفي المُلتبَس في قصص شخصيات عديدة معروفة، كان حضورها في المكان من العلامات الفارقة المعروفة، مثل شخصية نابليون، الرجل الغامض غريب الأطوار وصاحب الهيئة اللافتة بألوان صاخبة، وزيّ نابليون بقبّعة ضخمة وبنطال أبيض وجاكيت أحمر طويل، مذّهب ومزيّن بالأزرار وبالنياشين، ظلّ يمشي سنوات مختالاً في وسط البلد، متوهّماً أنه القائد الفرنسي الشهير، والجميع حوله، من مارّة وأصحاب متاجر، رعيّته الوفيّة، وانتهى به الأمر ميّتاً مشرّداً بالقرب من دوّار الداخلية، بعد أن أحاطت به طويلاً الاشاعات والقصص الخيالية التي نسجها أهالي عمّان في محاولة لتفسير وجوده الغريب.
كما يفرد الكاتب مساحةً للحديث عن الرجل النبيل أبي علي، صاحب كشك الثقافة، صديق المثقّفين ونصير الفقراء، الذي رحل قبل أزيد من عامين، ويقصّ ملامح علاقة أبي علي الوثيقة بالمثقّفين من الخلفيات الفكرية والسياسة كافّة، ويتحدّث عن صداقته معه منذ كان شابّاً فقير الحال، يستعير الكتب من الكشك بأثمان بخسة.
ويسرد الكاتب بأسلوب تلقائي شائق، وبلغة طيّعة رشيقة، من خلال سيرة المكان، سيرته الذاتية منذ الطفولة، يتحدّث عن هوسه بالسينما والكتب والموسيقى، ويعرض ملامحَ من شقاوة الصبا المبكّر، حين كان يتسكّع ورفاقه أمام مدارس البنات ومطاردة الشرطة لهم، وحرجه الشديد أمام صبيّة فاتنة، حين قبضت الشرطة عليه وعلى رفاقه أمامها، وتعرّض للتوبيخ من مدير المدرسة، ومن الوالد، الذي استدعته إدارة المدرسة ليوقّع تعهداً بعدم تكرار ابنه الطائش جريمة الحبّ العذري.
ويولي الكاتب (الماركسي) الجانب السياسي من مسار حياته اهتماماً خاصّاً، بسرد علاقته بالعمل السياسي منذ مرحلة مبكّرة من حياته، ويتطرّق إلى أسماء سياسية أردنية معروفة، ما يعكس وعياً مبكّراً بقضايا الأمّة العربية، وبدور الشباب وسعيهم إلى إحداث التغيير في الواقع العربي الحافل بالهزائم والانكسارات.
وتظلّ أجواء المقاهي ودور السينما طاغيةً في صفحات الكتاب، فضاءات متاحة للشباب حصراً، يلتقون فيها لقضاء الوقت الطويل، يلعبون الورق والشطرنج، ويتناقشون في الشؤون العامة، ويرتادون دور السينما كلّما توفّرت لهم بضعة قروش، ويلتهم بعضهم الكتب، فتتطوّر معارفهم، وتتشكّل شخصياتهم، وتزيد خبراتهم الحياتية، وتتبدّل أحوالهم ومصائرهم، كلّ بحسب ظرفه المعيشي.
ويدخلنا الكاتب إلى البيوت العمّانية العتيقة في الأحياء الشعبية الفقيرة، ويلقي الضوء من خلال حكاية أسرته على العلاقات الأسرية المتماسكة، ويحكي عن شقاء الآباء في تأمين لقمة العيش، ودور الأمّهات الأساس، رغم تواضع تحصيلهن العلّمي، في تربية أبنائهن وتوفير مستقبل أقلّ قسوة لهم، من خلال التركيز في التعليم هدفاً وقيمةً وطريقاً وحيداً للنجاح وتحقيق الذات.
تفاصيل عديدة حميمة مؤثّرة ممتعة تضمنها هذا الكتاب، لحيوات وعلاقات وتحوّلات، أبدع كاتبنا في تجسيدها شهادةً على سيرة مدينة، قد نختلف في أشياء عديدة، لكنّنا نتّفق في عشقها رغم كلّ شيء.