... ولا عزاء لأهالي غزّة
كما اغتبطنا بعملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر، فإننا جميعا على حزنٍ عميق بسبب ما خلّفته الحرب الإسرائيلية على غزّة من آلاف القتلى والجرحى ودمار شامل يدفعنا إلى التفكير باليوم التالي لوقف إطلاق النار. ونتساءل جميعنا، على الأغلب، عمّ سيحدُث لأهالي غزّة، بعد أن تضع الحرب أوزارها بعد جرائم الإبادة الجماعية التي تعرّضوا لها على مدار 49 يوما؟ كان همّهم فيها البقاء وعائلاتهم على قيد الحياة، وهو أمرٌ غير مؤكّد، ويعتمد على الحظ أو إحداثيات القصف الوحشي في لحظة فارقة قد تودي بعائلات بأكملها. وهو ما حدَث فعلا مرارا على مدى الأسابيع التي تلت عملية طوفان الأقصى البطولية. لكننا اليوم، وربما في المقبل من الأيام، نحتاج بطولات من نوع آخر. أقلّه ألا نُعلن نصرا فيما الدمار المروّع، يحيط بأهالينا في غزّة، فحين نعجز عن رؤية خساراتهم بيوتهم وممتلكاتهم وأرواح آبائهم وأمّهاتهم وأطفالهم التي فقدوها أو الإعاقات الدائمة التي أصيبوا بها، أو مدارسهم التي دُمّرت ومستشفياتهم التي أُخرجت من الخدمة، فإننا نعجز عن استمرار المقاومة. فمهما قلنا "أن لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، فإننا ندرك أن كثرا منا لم يجرؤوا أو لا يجرؤون أن يرتفع صوتهم بالمساءلة عن الأثمان الفادحة التي تكبّدها أهل غزّة، وقد يتكبّدونها في المقبل من الأيام إن لم يتوقّف إطلاق النار. تأملوا أن تتحول الهدنة المؤقتة إلى هدن أخرى، تتحول إلى وقف دائم لإطلاق النار، يسمح ربما بمقارنة الإنجازات بالأثمان الفادحة التي دفعوها، وسيدفعونها حين تضع هذه الحرب اللعينة أوزارها، ويقفون أمام بيوتهم المدمرة كليا أو جزئيا ولا تصلح للسكن، خصوصا بعد أن داهمهم الشتاء التي تذكر الأرصاد الجوية هذا العام أنه سيكون قطبيا شديد البرودة. حتى المساءلة عن جدوى هذه الإنجازات لن تمكنّنا من الإجابة عمّ نفعل إزاء كل هذا الدمار. أكانت المقاومة حسبت له حسابا كحساب اليوم التالي من معركة طوفان الأقصى أم لم تحسب. ولا بد أن الغضب والحزن ومشاعر مختلطة عديدة ستُصيبنا بالدوار، ونحن نقف مع أهلنا في غزّة أمام هذا المشهد المهول، بحيث يلهينا حتى عن تذكّر الأرواح الكثيرة التي خسرناها، والذين لا يسعنا إلا أن نترحّم عليهم، لكننا لا نملك ترف التوقّف عند خسارتهم، ونحن نواجه خسارة أكثر من 70% من منازل غزّة وغالبية بناها التحتية التي توفّر خدمات الطبابة والكهرباء والمياه والاتصالات، فهل هنالك أجوبة طارئة، أقلّه عن اليوم التالي لنهاية الحرب؟ وما يمكن فعله لتدارك حاجات الناس الملحّة جدا جدا؟
منذ الوهلة الأولى، اغتبط الفلسطينيون بمعركة طوفان الأقصى البطولية. لكن الغبطة اختلطت مع حجم الردّ الإسرائيلي المتوقّع، وكيف سيكون هذه المرّة بعد الهزيمة النكراء التي تلقتها إسرائيل؟ وهل من خطّة يمكن أن يشاركنا بها من خطّطوا لهذه العملية؟ أقلّه حتى نعرف ماذا نتوقّع أو نفعل؟ إن على صعيد النتائج السياسية لهذه المعركة، أو على صعيد خطّة النهوض من هذه الخسائر الباهظة التي يُفترض بالساسة أن يتوقّعوها حين يُقدمون على معركةٍ في أي بلد؟ أتساءل بصدق، وليس بقصد اللوم. فما حصل قد حصل، ولكن نأمل ألا يتكرّر هذا التقاعس عن وضع خطة لليوم التالي لأية معركة نخوضها مع احتلالٍ تفوّق في جرائمه حتى على هتلر. ومن منا لا يدرك المدى الذي يمكن أن يذهب إليه هذا الاحتلال بجرائمه الوحشية التي باتت تهدّد السلم العالمي بأسره بفعل الفجور باقترافها والضرب بعرض الحائط بالقوانين الدولية والقيم الإنسانية التي وُضعت لحماية المدنيين في أثناء الحروب، سيّما النساء والأطفال والمسنون.
يستبدّ القلق بأهالي غزّة الآن، وما هم فاعلون بعد دمار الآلاف من مساكنهم وبعد خسارتهم أحبّاءهم ومصادر رزقهم ومعيليهم
يُقال هذا، ونحن نؤكّد مشروعية المقاومة والضرب بيد من حديد ضد جيش الاحتلال الذي تمادى قبل هذه الحرب، وسيستمر في التمادي بسفك دماء شعبنا الفلسطيني في قطاع غزّة والضفة الغربية بذريعة أو بدون ذريعة. فهذا ما خبرناه دوما من انتهاكاته وغطرسته منذ نكبة 1948 المستمرّة، والتي لم يتوقف عن مواصلة ارتكابها. هل تنتظر المقاومة ربما الدعم الآتي لإعادة إعمار غزّة مثلا؟ نتساءل، وماذا لو لم يكفِ هذا الدعم؟ فالدمار هائل ويحتاج وقتا طويلا من إعادة إعمار البيوت والمساكن التي دُمّر كثير منها سابقا وأعيد إعماره، وما يزال كثير منها مدمّرا، ولم يعَد إعمارُه من حروبٍ سابقةٍ شنّتها إسرائيل على غزّة، أم أن ثمّة أجندة ستعوّض أهالي غزّة عن تضحياتهم وخساراتهم وانتهاك كراماتهم وهم يهيمون على وجوههم، هربا من القصف الذي يلاحقهم في كل اتجاه؟ ... كيف نواسي أهل غزّة اليوم؟ هل بمجرّد كلمات؟ أم هنالك خطط عملية وُضِعَت حين جرى التخطيط لليوم التالي لعملية طوفان الأقصى؟ أو لنهاية حربٍ شرسةٍ تتلوها؟
الحرب من وجوه السياسة والنضال لأية حركة تحرّر، وتحتاج إلى عقل حكيم ومدبّر يرى في رعاية شؤون الشعب والتقليل من خسائره من صميم عملها التحريري المقاوم، بل هي في مقدّمة اهتمامات القيادة الوطنية المقاوِمة. لأن المقاومة وجدت من أجلهم وتحرير الأرض من أجلهم والتخلّص من ظلم الاحتلال من أجلهم. ونعلم يقينا أن هنالك تضحيات كبرى يجب أن يقدّمها كل شعب من أجل تحرير وطنه، ولم يبخل الفلسطينيون في قطاع غزّة عن تقديمها في الحروب كلها التي شنّت عليهم، كما كل شعب فلسطين في الضفة الغربية والأراضي التي احتلت عام 1948، وأيضا في بلدان اللجوء والشتات.
قد تُجهض فداحة الخسارات غير المحسوبة روح المقاومة في نفوس الشعب، حين تتحوّل إلى عبء ثقيل عليه، لا تسمح له بالنهوض مجدّدا، وهذا ما تفهمه إسرائيل. وهذا هو هدفها من الحرب التدميرية الوحشية. تدمير روح المقاومة وإفقاد حركة حماس وكتائب عز الدين القسّام حاضنتهما الشعبية التي إن لم تهتم بها وبمصالحها في أثناء قيامها بالمقاومة والحروب، فإنها ستفقدها، فالشعب هو القوّة التي تحتاجها أية مقاومة، وعليه نسألكم الجواب عن اليوم التالي للحرب التي أعددتُم لها العدّة. ماذا عن تخزين المؤن ومستلزمات العمليات الجراحية التي تنجم عنها كما الأدوية والوقود والخيام التي قد يحتاجها النازحون للإيواء هربا من هول قصف وحشي اعتادت إسرائيل أن ترتكبه في حروبٍ سابقة، فكيف بتلك الحرب المتوقّعة التي تأتي من الخسارة الفادحة؟ ماذا عن اليوم التالي لهذه الحرب التدميرية المجنونة، حين تضع هذه أوزارها؟
هل هنالك أجوبة طارئة، أقلّه عن اليوم التالي لنهاية الحرب؟ وما يمكن فعله لتدارك حاجات الناس الملحّة جداً جداً؟
نسأل بصدق نيابة عن أهل غزّة. وليس السؤال للمقاومة فحسب، بل لكل من صفّق لعملية طوفان الأقصى واغتبط. ولكل من استنكر وتألّم على أهل غزّة من إخوته الفلسطينيين في الداخل المحتل وبلدان اللجوء والشتات الأعم. بل نسأل كل متظاهر ومتظاهرة هنا في هذا العالم العربي، وهناك في أرجاء الكوكب ما يمكن فعله حين تحطّ الحرب أوزارها لمواساة أهل غزّة بالفعل لا بالقول فقط؟ والمتوقّع أن يتراجع زخم الحرب الذي يُستمدّ من الخوف والهلع الذي سبّبته عملية طوفان الأقصى في صفوف جيش الاحتلال خصوصا، وعموم المجتمع الإسرائيلي الذي جعلته يتخبّط ما بين خلافات سياسية حادّة بين قادته وضغوط عائلات الرهائن، وإن وحّدتهُ على كراهية الفلسطينيين، والخوف على وجودهم وأمنهم واستقرارهم. إنهم لم يتمكّنوا من النظر في المرآة ليروا الجلاد الذي هم عليه، ويتراجعوا عن هذه الكراهية.
السؤال الكبير، وقبل أن تحترق الإنجازات التي يعتقد أنها تحققت في مزايدات محور المقاومة والممانعة إياه، وقبل أن تُرفع الشارات بالنصر: ماذا نحن فاعلون من أجل غزّة وأهلها حين تحطّ الحرب أوزارها؟ ستبدأ في تلك اللحظة معاناة شديدة في غزّة تفوق ما يمكن لمخيّلة أن تتصوّره، وما يمكن لكلمات وأفعال أن تواسيهم بها، فالقلق يستبدّ بأهالي غزّة الآن، وما هم فاعلون بعد دمار الآلاف من مساكنهم وبعد خسارتهم أحبّاءهم ومصادر رزقهم ومعيليهم. وسيتعاظم هذا القلق، حين تهدأ الحرب وتختفي صورهم عن الشاشات، ويذهب ملايين المتظاهرين إلى بيوتهم ويضيع الاهتمام بأهل غزّة في تفاصيل حياتهم اليومية التي يعودون إليها، من غير أن يدركوا أن أهالي غزّة يحتاجون دعمهم بعد الحرب بالدرجة التي فعلوا في أثناء الحرب. لأن الحرب الحقيقية مع مفعول رجعي ستبدأ الآن، لكن من نوع آخر أشدّ وطأة وأكثر ديمومة. حين يقف الغزّيون أمام بيوتهم المدمّرة فاقدي الحيلة، فيما العجز يغطّي سماء حياتهم ومستقبل أبنائهم أو من تبقوا من عائلاتهم ولا يجدون من يعزّيهم بعيدا عن الشاشات.