وهم الإصلاح في الأردن وغيره
افترشت التعقيبات والتعليقات، التي تُحلّل نتائج الانتخابات النيابية في الأردن وتقرأها، مساحةً غيرَ قليلةٍ، ليس في الأردن فحسب، بل في غير مكان من الإقليم، وربّما في أكثر من بقعة في العالم، خاصّةً تلك الساحات التي ترقب ما يجري في بلادنا. وزاد من اهتمام هؤلاء وأولئك ما انتهت إليه الانتخابات من فوز لافت للإخوان المسلمين، عبر ذراعهم السياسية، حزب جبهة العمل الإسلامي، إذ اختار نحو نصف مليون من الناخبين 31 إسلامياً أعضاء في مجلس النواب الأردني العشرين، وبدا كأن زلزالاً أصاب عقول بعضهم، لأنّهم لم يقرأوا الحدث في سياقاته التاريخية.
بدايةً، لا يكاد يختلف اثنان في العالم العربي، وربّما في العالم كلّه، في أنّ "الإخوان" سيفوزون في أيّ انتخابات حقيقية ونزيهة تجري، ليس في الأردن فقط، بل ربّما في أيّ بلد فيه جالية عربية مسلمة، حتّى لو كانت في بلاد الفرنجة، وتلك حكاية شديدة التعقيد يصعب على من يسمّون "رموز الثورة المضادّة" بلعها أو استيعابها، ناهيك عن فهمها، خاصّة أنّهم أنفقوا مليارات الدولارات لتكفين ما يسمونه "الإسلام السياسي"، خاصّةً بعد ما أفرزه "الربيع العربي" من تغييرات جذرية، لم يزل كثيرون يعتقدون أنّها "صناعة غربية"، ربّما لأنّهم لا يريدون أن يصدّقوا أنّ الشعوب يمكن أن تتحرّك لصناعة مستقبلها. وفي المحصّلة، لا يحسب هذا الميل "الفطري" إلى الإخوان فقط، بقدر ما هو تعبير عن تجذّر الإيمان بالإسلام ومن يمثّله في الضمير الجمعي العربي والمسلم، وبمعنى آخر، لو قيّض للشعوب العربية والإسلامية أن تختار رموزها وقادتها بحرّية حقيقية، فإنّها ستختار أكثرهم تديّناً وإيماناً، ولهذا ربّما نأت غالبية الأنظمة العربية عن "بلاء" الانتخابات بوصفها رجساً من عمل الشيطان، وشُيطِنت العملية الديمقراطية بوصفها حتّى منتجاً غربياً لا يصلح للمسلمين، وزاد بعضهم سبباً آخرَ على نبذها تحت عنوان: "شعوبنا ليست جاهزة أو ناضجة بما يكفي لممارسة الديمقراطية". والخلاصة هنا، أنّ فوز إخوان الأردن هو من تحصيل الحاصل، ولم يكن مفاجئاً، إنّما كان المفاجئ إجراء الانتخابات بجرعة غير معهودة من النزاهة، لم يعتد عليها الأردنيون ولا غيرهم، منذ انتخابات 1989، التي جاءت ببرلمان شبيه بالبرلمان العشرين، وهنا مفارقة لافتة، فقد انطلقت بعض الأقلام متغزّلة بالنزاهة وبالحياد، اللذين سادا عملية الانتخاب والفرز، واعتبرها بعضهم منحة كُبرى، وقراراً "جريئاً" من صاحب القرار، يستدعي "ردّ التحية بأحسن منها"، على اعتبار أنّ السمة اللصيقة والطبيعية هي التزوير والهندسة والتعيين، وربّما يكون هؤلاء معذورين فيما ذهبوا إليه، بعد أن تحوّلت الانتخابات النيابية نوعاً من المسرحية المملّة، وكلّ من خاض في هذا الأمر تذكّر ما قيل صراحة على لسان مسؤول كبيرعن "تعيين" 70 نائباً ذات انتخابات مضت، أو ما هو مشهور عن البرلماني المُخضرم، عبد الكريم الدغمي، قوله في حوار في فضائية المملكة (الحكومية)، إنّ النواب مُجرَّد ديكور(!)
الإصلاح الحقيقي يحتاج آليةَ عملٍ وقراراتٍ بالغة، ربّما لم يبلغها بعد الأردن وأي بلد عربي
ربّما يغيب عن أذهان متابعين كثيرين للحدث الأردني ما جرى قبل قرار الذهاب إلى صناديق الاقتراع، وهو ما يتمثّل بسلسلة كثيفة من تعديلات للدستور أعادت ترسيم العلاقة بين السلطات الثلاث، على نحو حجّم (وربّما حطّم) دور السلطة التشريعية إلى حدّ مثير، وعظّم دور السلطة التنفيذية، بل أعاد إنتاج ما تسمّى "الولاية العامّة"، وسحبتها حتّى من بين أيدي السلطة التنفيذية ذاتها لصالح القصر، وهو ما جعل كاتباً ومُحلّلاً سياسياً معتدلاً وغير معارض، منذر الحوارات، يقول لموقع "الجزيرة نت"، "إنّ التعديلات الدستورية جاءت للحدّ من صلاحيات السلطة التنفيذية القادمة، ولتقييد ولايتها العامّة، خاصّةً عند الحديث عن تأسيس مجلسٍ للأمن القومي يُعنى بالسياسة الخارجية والأمن وملفّات داخلية". وإنّ "التخويف من الأحزاب السياسية الصاعدة من التدخّل في هياكل البنية الأمنية والمؤسّساتية، وأنّ تصبّغها بالصبغة الحزبية، وتدخّلها بالعمل السياسي، هو كلام يتنافى مع الديمقراطية وحرّية الاختيار"، كما رأى أنّ التشكيك في القوى السياسية المحلّية معناه "القناعة الأكيدة بعدم أهلية المجتمع المدني بأن يفرز مؤسّساته التي تقود البلد، ما يُؤشّر إلى أنّ هذه الخطوة شكلية".
ويعني هذا الكلام أنّ ما قيل عن الإصلاحات السياسية، التي "اتّفقت" عليها لجنة مَلَكية، وكانت قاعدةً لسلسلة من التعديلات الدستورية والقانونية، كان الهدف منها تمهيد الأرض لاستزراع أحزاب يمكن أن تشكّل حكوماتٍ برلمانيةً (بعد سنوات طبعاً)، ولكن "منزوعة الدَسَم" لجهة عدم قدرتها على العمل بولاية عامّةٍ كاملةٍ غير منقوصة، وبتعبير آخر، وُضِعت سقوف للعمل البرلماني، ليبقى بعيداً عن ممارسة أيّ دور سياسي سيادي خارج دوره الذي اعتدنا عليه سنوات طويلة خلت، ولهذا لم يعد ثمّة أيّ خوف من إجراء انتخابات برلمانية حقيقية، وليفز فيها من يفوز، ما دامت صلاحياته تحت السيطرة، وضمن المُرتّب له دستورياً وقانونياً، وبوسع من يريد معرفة ما فعلته التعديلات الدستورية المتلاحقة من تجريف للحياة السياسية في الأردن، إعادة قراءة هذه التعديلات بتأنٍّ واستبطانٍ ليعرف مغزى هذا الكلام.
هذا ليس تقليلاً من أهمّية ما جرى في الأردن، ولكن محاولةً لوضعه في سياقه الحقيقي، فالإصلاح الحقيقي يحتاج آليةَ عملٍ وقراراتٍ بالغة التعقيد، ربّما لم يبلغها بعدُ الأردن ولا أي بلد عربي آخر، ما يجعل قصّة الإصلاح مُجرَّد وهم أو حلم بعيد المنال.