وهم التحالف الروسي الصيني
تتطوّر لغة الخطاب السياسي بشأن أزمة أوكرانيا على نحو يكشف عن "بنية" مواجهة حتمية بين روسيا والغرب. والحديث عن المواجهة لا يعني بالضرورة احتمال الحرب، لكنه يعني رجحان احتمال استمرار التصعيد: خطابًا وممارسةً. والتأكيدات الرسمية الأميركية المتتابعة بشأن سيناريو غزو روسي لأوكرانيا هي، بحد ذاتها، مؤشّر على المخاطر التي تنطوي عليها حالة المواجهة. صحيحٌ أن كلا الطرفين يملك أوراق لعب يمكن استخدامها في مواجهة الطرف الآخر، لكن المسافة كبيرة بين "القدرة الشاملة" لكلا الطرفين. وعليه، الخطاب التحليلي الذي يستخدم مفردات الحرب الباردة ويطابق (بلي عنق الحقائق) بين حال المواجهة بين ما يجري الآن وما كانت عليه الحال بين حلفي وارسو والناتو يرتكب "جريمة تحليلية".
وضمن أكثر مفردات هذا الخطاب تضليلًا وصف العلاقات الروسية الصينية بـ "التحالف"، لأن "شراكة القيم" أول مؤهلات نجاح التحالفات وديمومتها، وهو ما لا ينطبق على الإطلاق على العلاقات الصينية الروسية، فضلًا عن "المجازفة" بادّعاء أن إيران ضلع ثالثة في هذا التحالف الموهوم. وكلا البلدين: روسيا والصين، شهدا تحوّلات كبيرة خلال العقود الثلاثة الماضية تجعل "مقولة القيم" بالنسبة لما يحدّد الخطوط العريضة لاستراتيجية الدولتين في إدارة علاقاتهما الدولية ضربًا من الخداع اللغوي، فالصين منذ حكم دينغ شياو بينغ (1978 – 1992) تشهد تغيرات تفتقر إلى أبسط قواعد الاتساق، وتشكّل "سياسات القسر" سبب نجاحها الرئيس. والمزاوجة التي اعتمدها بينغ بين نمط الإنتاج الغربي وحكم الحزب الواحد ما تزال تشهد تصدعات ليس أولها، وغالبًا لن يكون آخرها، مجزرة تيان آن مين (1989). وروسيا من ناحية أخرى تغيرت تغيرًا جذريًا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي مطلع تسعينيات القرن الماضي، وأصبح بناء نظامها السياسي خليطًا من المافياوية والشمولية الكلاسيكية والأرثوذكسية والقومية المتطرّفة، وبالتالي لم تعد تؤسّس تصوراتها الاستراتيجية على تصور نظري يتصف بالاتساق.
وصف العلاقات الروسية الصينية بـ "التحالف" تضليل، لأن "شراكة القيم" أول مؤهلات نجاح التحالفات وديمومتها، وهو ما لا ينطبق هنا
والتوجه الكبير في سياسات البلدين نحو سلوك براغماتي في العلاقة مع الغرب يجعل لغة المواجهة "ضيفًا غير مرغوب فيه"، على الرغم مما يحققه خطاب "المواجهة" والصراع من مكاسب سياسية آنية شعبوية تغذّي المخاوف وتتغذّى عليها في آن. ومن الناحية التاريخية، لم تكد العلاقات بين البلدين، خلال النصف الثاني من القرن العشرين كله، تخلو من دوافع انعدام الثقة، والوحدة على قاعدة "عدو عدوي صديقي"، لا تؤتي ثمارها إلا على المدى القصير، وتخفي التناقضات التي لا يكون مفرّ من انفجارها عاجلًا أو آجلًا. والتوجه الأميركي نحو "احتواء" إيران بالموقف من حرب اليمن، والمساومة (الصريحة أو الضمنية) على رفع العقوبات، وغيرها من "الأبواب نصف المفتوحة" مع طهران لا يستبعد يوقف مسيرة التقارب الإيراني مع موسكو وبكين معًا، ولو إلى حين.
وفي بعض التفاصيل ما يستحق التوقف عنده طويلًا، فالضمانات التي تطلبها روسيا من أميركا وحلفائها تشبه مطالب دولة حققت انتصارًا عسكريًا شاملًا على خصم، وتطلب منه توقيع وثيقة استسلام، وهي مطالبُ لا يوجد ما يبرّر قبولها مطلقًا. وفي حال استسلم الأطلسيون للابتزاز الروسي مرّة ستكون المآلات في المستقبل أكثر سوءًا. في الوقت نفسه، فإن المواقف الأوروبية التي تتحول بسرعة كبيرة نحو الرفض الجماعي والالتزام الواضح بالعمل كـ "حلفاء" يكشف حقيقة بؤس الموقف الروسي، فالتقارب التكتيكي شيء والتحالف شيء آخر تمامًا. والصين في الحقيقة أصبحت "مرتهنة" للرأسمالية الغربية بدرجةٍ غير مسبوقة، وهذا الارتهان سيكون العنصر الحاسم في القرار السياسي الصيني.
حال استسلم الأطلسيون للابتزاز الروسي مرّة ستكون المآلات في المستقبل أكثر سوءًا
والموقف الروسي محاولة، لا يرجّح أن تنجح، لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء عبر المطالبة بإعادة الاعتبار لـ "ضمانات شفوية" يؤكدون أن الزعيم السوفييتي، ميخائيل غورباتشوف، تلقاها من نظيره الأميركي جورج بوش الأب، وهي ضماناتٌ ينكر الأميركيون أنهم قدموها. أما الروس فيحمّلون غورباتشوف المسؤولية عنها كـ "خطأ شخصي"، لكنها في الحقيقة ثمن الفشل الكبير الذي منيت به الشيوعية، وهو فشلٌ لم يصنعه غورباتشوف، والضعيف/ المهزوم يقبل ما يمنحه القوي/ المنتصر، وليس من حقه أن يضع على الطاولة "وثيقة استسلام" ليوقعها المنتصر!
وحتى "تحالف يوكوس" الذي أنشأته أميركا لمواجهة الصين، وقد دخل "متأخرًا" قاموس الخطاب الرسمي الروسي عن الأزمة، يؤكد الطبيعة التكتيكية للتقارب الروسي الصيني، وهو بالتالي ليس تحالفًا، ووصفه بذلك تسويق للوهم.