ياسر العظمة "مثل ما بدّو المختار"
من شاهد مسرحية "ضيعة تشرين" (أُنتجت عام 1974)، استوقفته عدة مشاهد، رأى فيها انعكاساً تهكمياً للأحوال في بلاده، ومن هذه مشهد التحقيق الذي يقوم به ياسر العظمة، ويؤدي دور رجل الأمن المستبد والسادي. يدفع العظمة أحد المواطنين بغلظةٍ وعنف، ويتهمه بالتآمر على الشعب والمختار، في مسرحية كتبها مبدع كبير لا خلاف على موهبته العظيمة، هو محمد الماغوط. يسأل المحقق المواطن عن فحوى حوار دار بينه وبين أحد جيرانه، فيعترف بأنهما تحدّثا عن اختفاء المواد التموينية من الضيعة، فيتهمه المحقّق بالكذب والتآمر ببثّ الإشاعات، ودليله في هذا أن بيت المختار ممتلئ بـ"خيرات الله" من عدس ورز وويسكي ولحم وبرغل.
يُستعاد المشهد على سبيل المقارنة المؤسسية مع مشهد العظمة نفسه قبل أيام، وهو يتحدّث بحزن ظاهر، لا شكّ في صدقه، عن بلاده سورية، في برنامج على "فيسبوك"، ويردّ ظاهرة الهجرة (!) إلى أوضاع المواطنين الصعبة بسبب "التجار الأشرار"، والوصف للعظمة نفسه. ولو سُئل ضابط كبير أو أحد المقرّبين من رأس النظام عن الأزمة المعيشية في سورية حالياً فربما لا يجد جواباً أفضل من جواب العظمة هذا أو ذاك الذي في المسرحية.
لنقل إن ثمّة معلماً وتلميذاً هنا، والمعلّم، في التعبير السوري، لا يعني أستاذ المدرسة أو الجامعة وحسب، بل أيضاً المتنفذ، وتحديداً في الأجهزة الأمنية. في هذه الحالة، يكون دريد لحام، وقد أدّى دور البيك (الرئيس) في مسرحية أخرى، "غربة"، هو المعلم، والعظمة هو التلميذ. ومعلومٌ أن المعلم حسم موقفه منذ اليوم الأول للثورة وانحاز إلى النظام، أما العظمة الذي أدّى دور التابع للبيك وحارسه في المسرحية نفسها فيُحسب له أنه صمت، فلم يؤيّد ولم يعارض، بل ترك الباب موارباً. ومن اصطفّ إلى جانب النظام رأى في صمته تأييداً أو على الأقل عدم معارضةٍ معلنة، ومن ثار نظر إلى موقف العظمة باعتباره أقل شرور المثقفين والفنانين، فهو لم يصفّق على الأقل لمقتلة السوريين البشعة وغير المسبوقة، لكن نظرةً متفحّصة كفيلةٌ بتفكيك الموقف المخاتل للعظمة، وإدراجه في سياق رواية النظام حتى لو لم يقصد ذلك. ولا تُنسى هنا معادلة الرئيس الراحل حافظ الأسد في ما يتعلق بالدراما، وتقوم على مبدأ دعْه يتحدّث بل ينتقد، وإذا شاء فليتطرّف في النقد ما دمنا نفعل ما نريد، وهو ما عُرف في المسرح والدراما بالتنفيس. وللإنصاف، كان الأسد الأب أكثر ذكاء من بقية زعماء المنطقة في توظيف الدراما لصالحه، رغم انطوائها على نقد عنيف لنظامه، وكان دريد لحّام، ومن بعده ياسر العظمة، من أبرز أدوات هذه السياسة التي أنتجت أعمالاً، بعضُها بالغ الجمال فنياً ودرامياً. وأظن أن العظمة الذي استفاق متأخّراً لم يعرف أن الأسد الأب مات، وأن معادلته تغيّرت، لا بمجيء خليفته إلى السلطة، بل لتغيّر الظروف كلها التي ضربت شرعية نظام الأب والابن معاً، فلم يعد التنفيس الذي ينتمي إلى مرحلة سابقة مناسباً. أما ذرف الدموع والحديث عن سورية "الزعلانة"، لأن أولادها يهاجرون منها فأمر يثير الضحك الأسود، لأنه يقفز عن الحقيقة ويخشاها، أو لا يريد أن يراها، فما حدث أكبر مما يسعى النظام إلى ترويجه عن "سورية الجميلة" التي أصبحت مدمّرة بسبب الثورة. ما حدث هو تدمير البلاد وتهجير، وليس هجرة، نحو نصف شعبها (ما بين لاجئ ونازح)، لا بسبب انهيار قيمة الليرة وتدهور الأوضاع المعيشية، بل هرباً من القتل والتعذيب.
سورية "زعلانة"، يا أستاذ ياسر، لأن نظامها قتل نحو نصف مليون من مواطنيها، وعذّب وهجّر وأفقر، وأعاد حواضر الشام إلى القرون الوسطى، ليبقى هو. وليست الأمور مشهداً في مسرحية، يا أستاذ ياسر، لتهتف بأهالي القرية: "شو بِدكون؟"، فيردّون عليك: "مثل ما بدّو المختار"، فيضحك الجمهور ويصفق لك، ويعود إلى بيته ممتلئاً بوهم الحرية بأنه انتقد وسخر من النظام. كلا، هذه المرّة كان ردّ الشعب أنه هو من يريد وليس المختار، وكان الثمن باهظاً جدّاً لأن مختار القرية كان ممثلاً في مسرحية، بينما مختار البلاد حاكمٌ ورث السلطة بسبب حادث سير، ولا يريد تركها حتى لو دمّر البلاد كلها: قل ذلك أو اصمت.