يجب الاحتفاء بفشل عملية أوسلو
في الذكرى الثلاثين لتوقيع اتفاق إعلان المبادئ بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل (تفاهمات أوسلو)، تركز التحليلات والآراء على العملية التي أطلقها الاتفاق في الوصول إلى سلام في فلسطين. وترتكز هذه الاستنتاجات إلى أن الاتفاقيات هدفت إلى سلام حقيقي، وإلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة، ولكنها منذ البداية كانت نتاج اختلالٍ في موازين القوى، مكّن إسرائيل من فرض شروطٍ تمنع تحقيق سلام عادل وممارسة الشعب الفلسطيني حقّه بتقرير المصير، ولو في الحدود الدنيا. بل كانت القيود التي فرضها الاتفاق تهدف إلى إيصال الفلسطينيين، بعد سنوات، إلى إعلان الاستسلام والتوقيع على اتفاق نهائي يقبل بكينونة جغرافية ممزّقة ومحدودة، منزوعة السلاح والسيادة على الحدود، وعلى الأرض وما تحتها وما فوقها، فلا اعتراف بحقّ الفلسطينيين بالسيطرة على حدود هذه الكينونة، حتى وإن كانت مجتزأة، ولا على الخيرات على الأرض والمصادر الطبيعية في جوفها، ولا على حركة الطيران فوقها، ولا على حركة إسكان، لتبقى جميعها تحت سيطرة إسرائيلية.
الأنكى أن ذلك كان يُراد تقديمه إلى العالم أنه "تنازل إسرائيلي" للفلسطينيين، مقابل التخلّي عن القدس وحق العودة وحقوق الأجيال الفلسطينية بالمطالبة بأي من حقوقها الفردية أو الجمعية منها، أي أن تكون خاتمة المرحلة الانتقالية الاستسلام الفلسطيني الكامل والتنازل عن جميع الحقوق الوطنية والتاريخية للشعب الفلسطيني. وهذا بالفعل ما حاولت فرضه الإدارة الأميركية في عهد الرئيس بيل كلينتون، تحت شعار "العرض الإسرائيلي السخي"، الذي قدّمه رئيس الوزراء السابق، إيهود باراك، إلى القائد الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، وملخّصه النقاط التي أوردتُها، تمهيدا لتصفية القضية الفلسطينية، وبالتالي فرض تطبيع عربي إسرائيلي كامل ودمج إسرائيل في المنطقة. كان "العرض"، كما أسمته آلة الدعاية الأميركية - الإسرائيلية" كذبا، نهاية المطاف المرسومة لـ"أوسلو"، فأولويات الاستراتيجية قبل "أوسلو" وبعدها، والآن وغدا، هي طمر "عقبة" القضية الفلسطينية، ودمج إسرائيل في المنطقة مع ضمان هيمنتها العسكرية والأمنية.
فتح اتفاق أوسلو باب التطبيع العالمي مع إسرائيل، فأغلبية من الدول التي قطعت علاقاتها مع تل أبيب بعد عدوان عام 1967، أو لم يكن لها علاقات مع إسرائيل، سارعت بإقامتها بعد توقيعه
المقصود بهذا السرد أن هناك فرقا بين وهم أوسلو الفلسطيني وواقع ما تفرضه الشروط الإسرائيلية –الأميركية. ومن هذا المنظور، فشلت العملية التي أطلقتها "أوسلو" في إخضاع الشعب الفلسطيني، وإن كانت شطرت حلم من كان لديه وهم أو أمل، أو وأدته، وهناك خيط فاصل بين الأمل والوهم، كان آيلا إلى الاختفاء. إذ كان هناك فرق شاسع بين التوقعات الفلسطينية وأهداف القوى المهيمنة (أميركا وإسرائيل) التي فرضت شروط ليس اتفاقيات أوسلو فحسب، وإنما أيضا شروط ما تسمّى "عملية السلام" في المجمل، كان دائما المقصود منها القبول الفلسطيني والعربي بانتصار إسرائيل.
هنا، أجد ضروريا، لإنصاف أغلبية من رأوا بريق أمل في اتفاقيات أوسلو، خصوصا وأنني كنت مناوئة لها في حينها، والتأكيد أنه كان اجتهاد فئات مناضلة كانت تأمل وبصدق أن تستطيع قلب الطاولة فور عودتها إلى أرض الوطن، ومنها أسماء غدت في عداد الشهداء أو تمضي أحكام سجن طويلة أو مؤبّدة في المعتقلات الصهيونية. وهذا درس لنا جميعا آمل أن ينتبه إليه الجيل الجديد، فليس كل من أيدوا "أوسلو" بوصفه مرحلة انتقالية، يجري الاجتهاد في أثنائها نحو تحقيق الحلم الفلسطيني، غير وطنيين، وإن كان منهم من غيّروا مواقفهم بعد مشاهدة توسيع المستوطنات والاقتراحات الأميركية والأوروبية التي جعلت التحرّر الفلسطيني أبعد من أي وقتٍ مضى.
والمسؤولية الأساس تقع على القيادة الفلسطينية وهيمنة تيارٍ يؤمن بمقولة الرئيس المصري الراحل أنور السادات بأن 99% من الحل في يد أميركا، وما يزال هذ التيار مهيمنا، وخصوصا بعد مرحلة ياسر عرفات، منكرا ومتجاهلا أن صمود الشعب الفلسطيني ومقاومته هو ما أفشل، وما يزال يُفشل، هذه المشاريع التي أصبحت معلنة، حتى قبل صعود اليمين الإسرائيلي المتطرّف إلى الحكم. ولذا؛ نرى اليوم أن الإدارة الأميركية لم تعد مهتمة بفرض اتفاق على الفلسطينيين، بل وبتطويق الفلسطينيين وعزلهم بتحالف تطبيعي عربي إسرائيلي، يجعل القضية الفلسطينية من منظورهم قضيةً جانبية تختفي تدريجيا من الذاكرة والوعي الجمعي العربي.
ما مثله "أوسلو" من محاولة لفرض استسلام تاريخي على الشعب الفلسطيني فشل، وعلينا أن نحتفي بهذا الفشل، وننخرط في النهوض مجدّداً
وقد فتح اتفاق أوسلو باب التطبيع العالمي مع إسرائيل، فأغلبية من الدول التي قطعت علاقاتها مع تل أبيب بعد عدوان عام 1967، أو لم يكن لها علاقات مع إسرائيل، سارعت بإقامتها بعد توقيعه، وهذا قِصَر نظرٍ خطير من القيادة الفلسطينية، حتى لو فرضنا أنها كانت مُجبرة، وإن أقررنا بالظروف الصعبة بالحصار العربي الكامل لمنظمة التحرير والشعب الفلسطيني. وفي النتيجة، فُتح الباب على مصراعيه لكسر مقاطعة عالمية، وخصوصا في دول الجنوب، لإسرائيل. وعلى الرغم من ذلك، وجدت أميركا أن دخول الفلسطينيين في اتفاق أوسلو لم يؤدّ إلى تطبيع شعبي أو قبول لإسرائيل، حتى بعد توقيع معاهدة وادي عربة بين الأردن وإسرائيل، وحتى بعد القمع الوحشي للانتفاضة الفلسطينية الثانية. إذ ظنّت واشنطن أن عهد الانتفاضات قد ولّى، وخصوصا في ظل التنسيق الأمني بين السلطة وإسرائيل، وراهنت بعد الانتفاضة الثانية على سياسات السلطة والضغط الدائم من خلال التمويل ووقف التمويل عن أجهزة السلطة، بغية إحداث انهيارٍ للمعنويات الشعبية الفلسطينية والفكر المقاوم. لكنها لم تسع إلى غير محاولة ما يسمّى استئناف "عملية السلام" لتخدير الشعب الفلسطيني والشعوب العربية، لتتخلّى عن ذلك، مع محاولة الرئيس دونالد ترمب المتهوّرة لفرض استسلام فلسطيني ومعلن، من منطلق ان "المنتصر يأخذ كل شيء"، ولكنه استعجل وفشل في فرض رسمي لما سماها "صفقة القرن"، وإنْ نجح في إحداث اختراقٍ علني غير مسبوق في الخليج العربي، بتحقيق التحالفات التطبيعية الإبراهيمية التي ما زالت تتسع، ففي الأسبوع الماضي جرى افتتاح سفارة إسرائيل في البحرين. وهاهي الإدارة الأميركية لم تعد مهتمة لا بأوسلو ولا بعملية سلام، وإنما بتحقيق تطبيع سعودي إسرائيلي، يشكّل برأيها ضربة قاصمة للفلسطينيين. ومسعى الفلسطينيين إلى وضع شروط للتطبيع السعودي الإسرائيلي بتنفيذ المبادرة العربية للسلام التي تدعو إلى انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها عام 1967 وإقامة دولة فلسطينية، ما هو إلا تكتيك لكسب الوقت، فواشنطن لم تقبل ولن تقبل، فهي مستعجلة في إلحاحها، وهي لا تستطيع، ولا تريد، كبح اليمين الإسرائيلي المتطرّف، وتراقب فشل إسرائيل في إنهاء المقاومة الفلسطينية، فترى الحل في تطبيع سعودي - إسرائيلي رسمي، تأمل أن يُسكت الفلسطينيين إلى الأبد، أو أن لا يعود أحد يسمع صوتهم.
المهم هنا أنه يجب ألّا نعيش في أجواء أوسلو، بل الحلّ في العودة إلى أهم مرحلة: مرحلة التحرّر الوطني، خصوصا وأن المجموعات المقاومة أثبتت انبعاث وعي تحرّري يوازيه صعود جيل فلسطيني جديد يحاول وضع رؤية تحرّرية، لا تأبه باتفافيات أوسلو أو بشروط أميركية، وتؤمن بالحقّ الفلسطيني وبالعودة إلى التحالفات الطبيعية مع الفئات والشعوب المقهورة.
هذا هو المستقبل، وما مثله "أوسلو" من محاولة لفرض استسلام تاريخي على الشعب الفلسطيني فشل، وعلينا أن نحتفي بهذا الفشل، وننخرط في النهوض مجدّدا.