يجب كسر صيغة التعايش مع الاحتلال
عنوان المقال صرخة ضد واقعٍ مرّ في فلسطين، وهو الاستسلام لصيغة التعايش مع الاحتلال، وليس الحديث هنا عن السلطة الفلسطينية في رام الله فحسب، بل عن سلطة حركة حماس في قطاع غزّة أيضا، فالتنافس على السلطة تحت الاحتلال هو قبول بالتعايش معه، حتى وإن تخلّلت ذلك مقاومة ترفضه، ولا يمكن إلا أن نحترمها ونجلّها. ولكن؛ في ظل الانقسام، سيبقى هناك غياب لاستراتيجية تحرّر وطني موحدة للشعب الفلسطيني تُبقي فاعلية المقاومة مشتتة، بالرغم من التضحيات الجسيمة.
استعرتُ عنوان المقال من نداء وجهته أكثر من ألف شخصية فلسطينية إلى الفصائل عشية اجتماع "المصالحة" في العلمين في مصر، إذ إن مجموعات المقاومة الجديدة، وإن جاءت من رحم التنظيمات أو من بيئتها، أيقظت الأمل في روح مناضلين قدامى وجدد، ليُطلقوا صرخة واضحة بأنه آن الأوان لوقف التعايش مع صيغة الاحتلال وصيغة الانقسام، فكل تصرّفات القيادات "الرسمية" وخطواتها لا تتعدّى التموضع، وإعادة التموضع، للتعايش مع شروط الاحتلال وإبقاء الانقسام، وهو يلخص الحالة الفلسطينية، لأن هذه القيادات، إن كانت وجدت فائدة مباشرة من الارتباط بالاحتلال أو من ميزات السلطة أو نتيجة يأس أو إحباط، تصبح عاجزة عن التفكير والتحرّك بحرية لمواجهة الاحتلال. وهذا ما أثبتته مخرجات "اجتماع العلمين" في مصر، التي أصبحت الأكثرية لا تأبه بمجرياتها ونتائجها، بل تبدو إعادةً رتيبةً ومثيرةً للشفقة، بالرغم من أن أي اجتماع ضروري ومرحّب به، لكن لا يوجد مؤشّر على الانتقال من حيّز صور لقادة مبتسمين إلى عمل توحيدي، فبدون الاعتراف بأن لا سلطة تحت احتلال، بل يحتاج الشعب قيادة تتحدّى الاحتلال بعقلها قبل فعلها، وبدون التخلّي عن أحلام السلطة وامتيازاتها وغرورها، والاستمرار في الاعتقالات في الضفة الغربية وفي غزة، فلا يوجد جدّية أو بصيص أمل.
مهما فعلت السلطة، ومهما وقّعت "حماس" اتفاقيات هدنة، فالمطلوب إنهاء الهوية الفلسطينية، وفي نهاية الأمر، ترفض إسرائيل كل الأطراف الفلسطينية
من السهل الدعوة إلى إسقاط "سلطة رام الله" وإلى إسقاط "سلطة غزّة". ولكن لم يظهر بديل سياسي يقود الشعب الفلسطيني، فالمجموعات المقاوِمة تأبى على نفسها الانجرار إلى مواجهة مسلحة مع السلطة في الضفة الغربية، بالرغم من اعتقال أفرادٍ منها ، في مؤشّر إلى نضوج سياسي تقابله رعونة جوفاء، فمداهمات الأمن الفلسطيني في جنين كادت تؤدّي إلى اشتباكات دموية، ووصل الأمر إلى أن وجّه مناضلو حركة فتح داحل مخيم جنين تحذيرا واضحا إلى قيادة الحركة ورئاسة السلطة بأنهم يقفون ضد أي اقتحام للمخيم، والاستقبال السلبي لنائب قائد حركة فتح محمود العالول، بالرغم من احترام كوادر الحركة تاريخه، كان مؤشّرا واضحا على أن مقاتلي "فتح" في المخيم يرون أن دفاعهم عن المقاومين، وليس عن القيادة، يجسّد الانتماء الحقيقي للحركة التي أشعلت الثورة الفلسطينية بعد النكبة.
لذا؛ إذا أرادت سلطتا رام الله وغزّة تحقيق مصالحة حقيقية، ليس بين أفراد مولعين بتقاسم السلطة، يجب التخلي عن خوف كل منهما في "منطقة نفوذه" المعرّضة لاجتياح أو قصف إسرائيلي متى شاء العدو. الأهم هو مصالحة مع الشعب الفلسطيني، أقول هذا، لكن، داخليا، وبصدق، لا أستطيع أن أؤمن بأي نتيجةٍ لأي حوار، ولا في رغبة القيادات بالتصالح مع الشعب الفلسطيني، بل الأهم أن الأمر يتطلب معجزةً حقيقيةً في استعادة الثقة الشعبية بالقيادات؛ فمعظم ردود فعل السلطتين نابعة من الخوف من فقدان السلطة.
لكن، هناك أبعاد أخطر، وهي أن إسرائيل ليست مستفيدة من الصراع على السلطة فقط، وإنما تغذّيه، وهذا معروف. لكن الجديد هو الدعوة في بلاد عربية، ومنها الأردن، إلى إعلان سقوط السلطة والدعوة إلى تدخّل الأردن أمنيا وسياسيا "لملء الفراغ في الضفة". المفارقة أن هذا لا يمثل الموقف الرسمي الأردني، وإنما تيار ينادي منذ سنوات باستعادة الأردن تمثيله الضفة الغربية، بحجّة الخوف من انتشار فوضى عنيفة لحظة "سقوط السلطة الوشيك"، والتعامل مع حركة حماس، إذ إنها "مهيأة" في تقدير هذا التيار، من داخل الدولة وخارجها، أن تكون المؤثرة في الضفة.
هذا استثمار خبيث لحالة الانقسام الفلسطيني، أي أن من ينادي بعودة دور أردني رسمي يتمنّى القضاء على المقاومين، ويعتقد أن على الأردن أن يثبت أنه الأفضل والأقدر على فرض "الهدوء" وإيجاد صيغة تعايش مع إسرائيل، أي توريط الأردن بدورٍ كان الملك عبدالله الثاني قد رفضه بقوة بعد أن عرض الرئيس السابق دونالد ترمب عليه إدارة الضفة. لكن هذا التيار استمر في ترويجه هذه الفكرة، وكأن على الأردن القيام بدور وظيفي، حتى وإن عرّض أمن النظام والبلد ومستقبلهما إلى خطر. ويأتي هذا، في جزء منه، نتيجة استسلام القيادة لصيغتي التعايش مع الاحتلال ومع الانقسام، غير أنه لم يعد كافيا لإسرائيل، وخصوصا حكومة اليمين المتطرّف، استسلام السلطة للتعايش مع الاحتلال. وقد أفقدت محاولة التعايش الشعب الفلسطيني الثقة بالقيادات، فيما زادت من عنجهية إسرائيل، إذ مهما فعلت السلطة، ومهما وقّعت "حماس" اتفاقيات هدنة، فالمطلوب إنهاء الهوية الفلسطينية، وفي نهاية الأمر، ترفض إسرائيل كل الأطراف الفلسطينية.
تسارع التطبيع العربي الإسرائيلي، واستمرار الانقسام، واستمرار التنسيق الأمني، عوامل إضعاف للشعب الفلسطيني
لا يهم موقفنا من السلطة أو قيادة "حماس"، فالأهم أن الوضع لم يعد يحتمل التنافس والصراع على السلطة، وهؤلاء هم في مركز صناعة القرار، وإذا كانت أذهانهم غائبةً عن طبيعة الخطر، وكانوا مشغولين بانقساماتهم، وإن كنا لا نظن أنهم قادرون على بلورة خطّة تحرّرية، لكن، على الأقل، عليهم فهم أحد أبعاد المرحلة، فتسويق أفكار مثل ضم الضفة إلى الأردن أو دخول الأردن الضفة بديلا عن السلطة، يهدفان إلى إحداث شرخ فلسطيني أردني، وتعريض كلٍّ من فلسطين والأردن إلى خطر شديد، إضافة إلى تعميق الانقسام الفلسطيني، وبخاصة إذا دبّ الذعر في السلطة، وفي فترة قريبة جدا رأينا حدوث ذلك.
نأمل أن يكون لقاء العلمين قد خفّف التوتر بين "حماس" وقيادة حركة فتح رأفة بالشعب الفلسطيني، فذلك شرط ضروري ويساهم في وضوح الرؤية؛ فإسرائيل جاهزة لانقضاض اللحظة الأخيرة، والخوف قائم من انجرار جديد إلى صراع بين السلطتين، وسيشكّل هذا تهديدا وجوديا للشعب الفلسطيني.
نهوض الشعب الفلسطيني، وبخاصة منذ مايو/ أيار 2021، وبروز المقاومة الملهمة، أشعلا الأمل من جديد، ليس للفلسطينيين فحسب، بل للأردنيين والشعوب العربية، لكن تسارع التطبيع العربي الإسرائيلي، واستمرار الانقسام، واستمرار التنسيق الأمني باعتباره جزءا من التعايش مع الاحتلال، عوامل إضعاف للشعب الفلسطيني، ولمستقبل العالم العربي، فمجرّد تشكيل لجنة مصالحة جديدة لا يشجع على التفاؤل، فعلى الأقل، ليخجل القادة ولينهوا صراعهم العبثي على سلطةٍ فاقدة السيادة، وليتذكّروا العدو الرئيسي الذي لا يقبل أي فلسطيني، مهادنا كان أو مقاوما.