يهودي من الكويت

24 ابريل 2020
+ الخط -
يبدأ اليوم، على شاشة فضائيةٍ عربيةٍ، عرض مسلسلٍ تلفزيوني، من أجواء اليهود في الخليج العربي في أربعينيات القرن الماضي، وهو أولٌ من نوعِه وموضوعه، فالتي سبقته كانت أعمالا دراميةً من أجواء العرب اليهود في سورية ومصر. وقد نال المسلسلَ المرتقب سخطٌ عليه في أوساطٍ عربيةٍ غير قليلة، أشاعت ارتيابا متعجّلا منه. ولا يرى كاتب هذا التعليق رجاحةً في ذمّ عملٍ دراميٍّ لم يُشاهد أحدٌ أي حلقةٍ منه. كما أنه لا يحسُن، أبدا، التحسّس من الاقتراب، فنيا، من موضوعة العرب اليهود في دول الخليج، فثمّة كتبٌ صدرت عنهم، أجاد مؤلفوها في البحث والدرس، منها كتاب الفلسطيني حمزة عليان، "يهود الكويت.. وقائع وأحداث" (دار السلاسل، الكويت، 2012). ويُؤتى به هنا مثالا بالنظر إلى ما ذاع أن المسلسل الجديد يخوضُ في أجواء هؤلاء الكويتيين اليهود. وهم الذين جعل الروائي الكويتي، وليد الرجيب، شخصيةً منهم، متخيّلةً وحقيقيةً في آن، بطلا رئيسيا لروايته "أما بعد .." (دار الفارابي، بيروت، 2010)، وأظنّها الرواية الأولى (وربما الوحيدة) التي تذهب إلى هؤلاء اليهود تحديدا، فقد صدرت رواياتٌ لكتّابٍ وكاتباتٍ من الخليج (السعودية مثلا)، انشغلت بأجواء يهود اليمن والجزيرة، وبيئاتهم العتيقة غالبا. أما من البلاد العربية الأخرى، فلم يعد يخلو عامٌ من صدور روايةٍ أو أكثر تقوم على شخصياتٍ يهوديةٍ، ويحوز التحسّب من أن يصبح هذا الحال موضةً، لأغراض المقروئية وغيرها.
قال وليد الرجيب إن روايته ليست عن تاريخ يهود الكويت، ولا عن إثبات وجودهم في زمنٍ مضى، وإنه لم يقصد إشاعة التعاطف المطلق معهم، فليس دوره إقناع قرّائه بأن ظلما تعرّضوا له. هذا صحيحٌ، وكل الحقّ مع الكاتب في قوله إن قصة روايته قد تنطبق على أي شخصٍ من غير يهود الكويت، عندما تتبّعَت خطّا دراميا لبحث البطل عن محبوبته التي رحلت عن الكويت قبله، لمّا كانا طفليْن. ولكن وليد الرجيب جاء في صفحاتٍ غير قليلةٍ في روايته على ما كان عليه الكويتيون والعراقيون اليهود في بلديْهما، لما لذلك من ضرورةٍ سرديةٍ وبنائيةٍ في النص، طالما أن البطولة المطلقة فيه (بلغة السينما) لواحدٍ من هؤلاء، اسمُه يعقوب عزرا، تقدّمه الرواية، منذ مولده في الكويت وحتى بلوغه الخامسة والثمانين عاما في إسرائيل، مرورا به وحيدا بعد مغادرة عائلته إلى أميركا، مقيما وسجينا في العراق، بوهيميا إلى حد ما، وعابثا، ثم هاربا إلى إسرائيل، شيوعيا كارها للصهيونية. وفي كل هذه الغضون، ثمّة الحضور الباقي، شديد الأهمية، للمحبوبة سارة في جوانحه ووجدانه ومخيّلته كل هذه العقود، منذ مغادرتها مع أسرتها الكويت غداة 1948، ولم يعثُر عليها، ولا على أي خبرٍ عنها، على الرغم من بحثه المضني.
وعلى ما اتّصف به مبنى النص من بساطةٍ، وقد اعتمد حكي البطل عن نفسِه لمخرج فيلمٍ عنه، بلغة الأنا الراوي، مع تقاطعاتٍ وتقطيعاتٍ قليلة، فإن إيحاءً نابها، تختتم به الرواية مسارَها، في الخبر الذي يعرف به المُخرج عن موت سارة، وكان يتقصّى عنها ليقع على أي خبرٍ عنها يهديه إلى يعقوب، ثم يعرف أنها كانت قد غيّرت اسمها في السجلات الرسمية، وماتت قبل أيام من انتهاء تصوير الفيلم، أي أياما قبل أن يُنهي البطل سرد حكايته (أو حكاياته). وقد ظلت سارة، في الرواية، ترميزا لحنينٍ إلى زمنٍ مفقود، إلى طفولةٍ غابت، إلى مرابع الكويت، إلى الصحبة الأولى مع الصديق المسلم موسى، إلى أحرف اللغة العربية التي تعلمها يعقوب من صديقه هذا، وكتب بها مفردات حبّه ذاك، والذي أقام عليه طوال هذه العقود.
هذه هي "أما بعد .."، بإيجازٍ لا يلغي التنويه بحُسن الإيقاع الذي تتوالى فيه وقائع الحكايات، مع تفاصيل أغنت القصّ والسرد، وإن احتاجت إلى شحناتٍ لغويةٍ أكثر تعبيرا عن جوانيات البطل الراوي، وهو يدأب على التذكّر، وفي مغالبته الحب البعيد، والخسران الذي أقامت عليه حياته. أمّا مزاج الحنق الكاره الذي رُمي به الكويتيون اليهود في أجواء إقامة إسرائيل على أرض فلسطين، ومحاولة معظم عائلاتهم (نحو 150 عائلة بحسب المصادر) التمسّك بالبقاء في الكويت، أمّا عن عراقية يهود العراق، فذلكم وغيره، مبثوثٌ في الرواية لخدمتها عملا فنيا، والأنسب أن نقرأ عنه في كتب التاريخ والبحث الاجتماعي. أمّا في رواية وليد الرجيب، فلنا أن نقرأ يعقوب عزرا يقول "إسرائيل أسّست نفسها على القتل والتدمير، على الحقد والكراهية، والاستيلاء على ما ليس لها".
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.