يوبيل إليزابيث.. اذكروا محاسن الأرستقراطية
أخبار العائلة الملكية في بريطانيا هذه الأيام ليست من صنف النميمة الخارجة من غرف نوم الأمراء، هاري خصوصاً وأندرو وتشارلز قبلهما وزوجاتهم وطليقاتهم. لا دوقة ساسكس في الحدث، ولا أميرة ويلز، ولا اتهامات بالعنصرية والتنمر داخل القصر، ولا صلات بجيفري إبستين، ولا ماذا لبست هذه وماذا أكلت تلك وكم مرة ظهرت الأميرات على أغلفة مجلة فوغ. إنه اليوبيل البلاتيني لاعتلاء الملكة إليزابيث الثانية العرش البريطاني. بلاد تحتفل بمرور 70 عاماً على تكريس نظرية أن قوة الملكة تنبع من أنها لا تعلن رأيها علناً في السياسة البريطانية والعالمية. لا يتعلق الأمر بـ"الغموض الاستراتيجي"، بل بإجادة أصعب مهنة في العالم: أن تمارس أي شيء إلا السياسة بينما أنت رأس الدولة. والعيش في عاصمة هذه الدولة أيام اليوبيل البلاتيني فرصة ولعنة في آن واحد. فرصة لاختبار المدن الكوزموبوليتية المفتوحة على الحداثة بكل أشكالها والتي تستوعب أغرب التقاليد الملكية مع أكثر أنماط الحياة تفلتاً من بروتوكول و"أصول" وقواعد. مدينة تهضم كل شعوب العالم ولغاتهم وثقافاتهم ومطابخهم ومشكلاتهم، بحد أدنى من العنصرية، الموجودة في لندن بلا شك، لكن أقل بما لا يقارن مع عواصم أوروبية مجاورة. لكنها أيضاً لعنة أن ترى بعينك كيف تنهار أمم، وكيف تنحو شعبوياً وكيف تكون معرّضة لفقدان وحدة أراضيها، وكيف يقرر شعب، أو غالبيته، الانتحار الجماعي بخيارات خرقاء مثل انتخاب قليل كفاءة وكاريزما وكياسة كبوريس جونسون أو الخروج من الاتحاد الأوروبي ليخسر الاقتصاد، بسبب بريكست وكوفيد معاً، في غضون عام ونصف عام فقط، مركزَين على لائحة أكبر اقتصادات العالم، وليسجل أكبر ركود منذ ثلاثة قرون، ولتبلغ نسبة التضخم فيه في غضون 18 شهراً 21.5 في المائة، ولتصبح لندن ثاني أغلى مدينة في العالم لناحية الديون التي تتكبدها العائلات في المتوسط لدى حلول كل آخر شهر.
هذا شيء عن وضع الدولة التي ترأسها نظرياً إليزابيث الثانية منذ 70 عاماً. لم يكن الحال كذلك طبعاً في 6 فبراير/ شباط 1952 حين خلفت والدها المتوفى، ومنذ ذلك اليوم، لم تدلِ إليزابيث بأي مقابلة صحافية. سُرّبت روايات كثيرة عن آرائها السياسية طبعاً. من أشهر ما يذكره التاريخ حادثتان: غضبها لدى علمها بانخراط رئيس حكومتها المحافظ أنطوني إيدن في العدوان الثلاثي على مصر، وحربها الباردة مع رئيسة حكومتها التي كانت تكبرها سناً بستة أشهر، مارغريت تاتشر، على خلفية رفض السيدة الحديدية ممارسة أي ضغط على نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. ملكة الأرستقراطية كانت تظهر كتقدّمية لدى مقارنتها برؤساء حكومات من اليسار العمالي واليمين المحافظ. وأمام بورجوازيات كثيرة أراد لها مفكرون أن تكون قاطرة التاريخ، فأنتجت شيئاً بوزن بوريس جونسون، المعركة غير متكافئة لمصلحة أرستقراطية إليزابيث. وأمام يسار حلم بتغيير العالم فولد كارثة بشرية اسمها طوني بلير، يصبح وجود صاحبة الـ96 عاماً في المشهد ضرورة أخلاقية قبل أن تكون سياسية.
"حكمت" إليزابيث 70 عاماً وهي ممنوعة من السياسة، وربما كارهة لها. يروي مصوّرها منذ 45 عاماً، أرثر إدواردز، أن سبب حبها لكلابها ولأحصنتها، أنّهم لا يعرفون أنها هي الملكة، وسرّ عزلتها أشهر الصيف الثلاثة (كأنّ في بريطانيا فصل صيف!) في بالمورال (اسكتلندا)، أن الناس ينسون أمرها في الشأن العام طوال هذه الفترة. حتى خطاباتها إلى الشعب كان يجب أن تبقى نادرة وأسبابها ينبغي أن تكون موجبة للغاية، مثل وفاة الأميرة ديانا وأزمة كوفيد بما كانته من كارثة وطنية. إليزابيث الثانية صاحبة فضل على علم السياسة. قدّمت نموذجاً لقوة صاحب منصب تنبع من الضعف. هذه وضعية كانت معروفة في حالات دول، لكن ليس رؤساء دول.
في يوبيلها البلاتيني، ربما وجب تذكر إليزابيث الثانية على أنها أشهر سيدة معاصرة وفرت شروط تنظيم دفن لائق لطبقة اجتماعية أوروبية اسمها الأرستقراطية، لم يكن كل ما فعلته في التاريخ حقيراً.