04 نوفمبر 2024
يوميات عدنان أبو عودة.. إضاءات عربية وأهمية وفيرة
يعكف رجل الدبلوماسية والإعلام الأردني، عدنان أبو عودة (84 عاما)، حاليا على كتابة مذكّراته. وهو الوزير في غير حكومةٍ أردنيةٍ سابقة، ورئيس الديوان الملكي ووزير البلاط في زمن مضى، وضابط المخابرات الأردنية العتيق، ومندوب الأردن في الأمم المتحدة في بعض التسعينيات الماضية، والمستشار السياسي للملك عبدالله الثاني قبل سنوات. وبالنظر إلى هذه المواقع، وقبلها انتسابه، في شبابه الأول في بلده نابلس، إلى حزب التحرير الإسلامي، ثم إلى الحزب الشيوعي الأردني، في مفارقةٍ غريبةٍ حقا، فإن هذه المذكرات ستكون شائقة ومهمة وذات قيمة تاريخية وتوثيقية، سيما إذا اشتملت على غير الذائع والمعروف عن كاتبها. ولذلك، ستكون محلّ مؤاخذةٍ وانتقاد، إذا اكتفت بالمعلوم مما تحدث عنه أبو عودة عن سيرته، ومحطاتٍ في تجربته، في مقابلاتٍ صحافيةٍ وتلفزيونيةٍ عديدة أجريت معه. كما أن من المهم ليس فقط أن تكشف عن خبايا مستورةٍ، وإنما أيضا أن تشتمل على مقادير من المراجعة العامة لتجربة صاحبها العريضة في العمل العام، والإطلالة عليها بعين من يرى أخطاءً في خياراتٍ ومواقف هنا وهناك، ومن دون تحفّظ، وتعيين وقائع محدّدةٍ ومعينةٍ في هذا الخصوص. ومعلومٌ أن مذكرات السياسيين العرب من هذا اللون شحيحة، وقليلا ما تتوفر على هذا المطلوب (والمتوقع؟) من مذكرات عدنان أبو عودة التي تنكتب الآن، ولم تصدر بعد، والتي سنؤاخذها وننتقدها، أو نمتدحها ونمحضها مقادير من الإعجاب، القليل أو الكثير، بمقدار ما تتوفر عليه من هذه المعايير المشار إليها، من ناحية المعلومات الجديدة، ومراجعة الذات والتجربة، والبناء والأسلوب. ..
هذا عن مذكراتٍ لم تنشر. ولكن، ماذا بشأن "يوميات عدنان أبو عودة.. 1970- 1988" (عمّان، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2017). وقد دوّنها صاحبها في نحو خمسة عشر عاما؟ كيف نقرأها؟ هل يمكن مؤاخذةُ كاتبها على أشياء فيها؟ هل أعجبتنا أم لا؟ هل فيها ما يفيد أم لا؟ هل نحاسبها (وكاتبها بالضرورة) بالكيفية التي نفعل مع كتاب مذكّرات؟.
هذا عن مذكراتٍ لم تنشر. ولكن، ماذا بشأن "يوميات عدنان أبو عودة.. 1970- 1988" (عمّان، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2017). وقد دوّنها صاحبها في نحو خمسة عشر عاما؟ كيف نقرأها؟ هل يمكن مؤاخذةُ كاتبها على أشياء فيها؟ هل أعجبتنا أم لا؟ هل فيها ما يفيد أم لا؟ هل نحاسبها (وكاتبها بالضرورة) بالكيفية التي نفعل مع كتاب مذكّرات؟.
نصوص حرة.. وثائق وتحليلات
الجواب أننا لا يجوز أن نفعل في مطالعة يوميات عدنان أبو عودة كما سنفعل مع مذكّراته التي يلزم الإلحاح على شخصه الكريم بضرورة الاستعجال في الانتهاء منها، ذلك أن هذه اليوميات نصوصٌ حرّة، تبدو خاصةً وعامة، كتبها أبو السعيد لنفسه، رغبةً في "الفضفضة" ربما، أو
ومن شبه المحاضر والوثائق الشديدة الأهمية أيضا محادثات الاتحاد الأردني السوري في 16 /3 /1977 (362 ـ 383)، في عمّان، بين وفدين رفيعين، الأردني برئاسة رئيس الحكومة مضر بدران والسوري برئاسة نظيره عبد الرحمن خليفاوي. حيث التفاصيل المثيرة، والنقاش بين الجانبين عن هدف هذه المداولات، وهو الوصول إلى "دولة اتحادية" (!)، ويأتي الحديث على "اتحاد رئاسي". ومن مفارقاتٍ طريفة (ومهمة في الوقت نفسه) أن وزير الخارجية السوري، عبد الحليم خدّام، يشير إلى "غلاظة" الرئيس الليبي، معمر القذافي، وتحمّل السوريين لها، بهدف الوصول إلى موقفٍ سياسيٍّ موحد. ويهاجم خدّام، في هذه المداولات، منظمة التحرير الفلسطينية التي "سقطت عندما أفرغت عقيدتها من البعد القومي"، بحسب تعبيره. وكانت الانعطافة حادّةً جدا في تدهور العلاقات السورية الأردنية، بعد الذي بلغته من تحسّن كبير، وصل إلى حد التداول في "دولةٍ اتحادية" تضم البلدين، ومن ذلك أن المخابرات السورية ترتب لاغتيال رئيس الحكومة مضر بدران، ثم القيادي في "الإخوان المسلمين"، يوسف العظم، في عمّان، كما يذكر في يومية 24/7/1980 (ص 612). وتاليا في 11/ 3/ 1981 يتحدّث عدنان أبو عودة للشيخ زايد في أبوظبي عن النظام السوري إنه مكشوفٌ وطائفيٌّ وإرهابي. وعندما يعود الدفء إلى العلاقات، يزور الملك الحسين دمشق في 31/12/1985، وفي غضون توترٍ في العلاقات بين عمّان ومنظمة التحرير الفلسطينية، يجري مع حافظ الأسد حديثٌ عن التفكير ببديلٍ عن ياسر عرفات لزعامة منظمة التحرير، ويسمع الوفد الأردني من الرئيس السوري سؤاله: ألا يوجد عندكم فلسطينيٌّ يصلح لخلافة عرفات؟ (ص 864). وفي هذا السياق، للكتاب أهميته التوثيقية بشأن مداولات التوصل بين الأردن وعرفات إلى اتفاق 11 شباط في 1984، وانهياره، مع تراجع عرفات عنه، وبتفصيل التفاصيل. ومن ذلك مثلا، قول الملك إلى عدنان أبو عودة، بعد عامين من ذلك كله، في 9/2/1986، "حتى لو وافقوا (الأميركيون) له (أبو عمار) على تقرير المصير، فإنه سيُطالب بشيء جديد، لا فائدة فيه يا أبو السعيد" (934).
قراءة تلقائية
كتابٌ من هذا النوع النادر جدا، عليك في مطالعته أن تتخفّف من أي مسبقات. شرطه الوحيد عليك أن تترك قناعاتك ومواقفك من عدنان أبو عودة أو الملك الحسين أو ياسر عرفات أو صدام حسين أو زيد الرفاعي أو حافظ الأسد أو غيرهم خارج الكتاب، وتدخل إليه بأريحيةٍ، بتلقائية. ستجد ما يحيّرك، وما يدهشك، وما يثير تفكيرك. وأيضا ستجد فيه كثيرا مما يُحزنك من بؤس السياسة العربية، من تدنّي مستوى الدبلوماسية العربية، من حدّة مشاعر الكراهية والبغض بين الزعيم العربي الفلاني والعلاني (بين حافظ الأسد وياسر عرفات مثلا). وستضحكك مواقفُ مدهشةٌ في طرافتها، وكاريكاتوريّتها أحيانا. إذ تتوفر يوميات عدنان أبو عودة على حكاياتٍ شائقةٍ ومثيرةٍ عن ملوك وحكام ونجوم. وقبل ذلك وبعده، ستجد ما يفيد في الإطلال على وقائع وأحداث أردنية محلية، وفلسطينية، وعربية. وذلك كله مما رآه أبو عودة، وما سمعه، وما
وإذ صحيحٌ تماما أن الإفادة كبيرة في الكتاب بشأن تفاصيل أردنية داخلية، ولا سيما في ما يخص العلاقة العويصة بين المكوّنين الأردني والفلسطيني في المملكة، إلا أن من الملحّ عدم إغفال الأهمية التي يتوفر عليها "يوميات عدنان أبو عودة.. " في غير شأن عربي. وإذ نحن في غضون المحنة السورية الراهنة، تفيدك يوميات في الكتاب في تحليل بنية النظام في سورية وذهنيته. ويفيدك بشأن الإخوان المسلمين، الحرب العراقية الأردنية، العلاقات العربية الأميركية، العلاقات السورية الفلسطينية، السياسة الأميركية وعملية التسوية، المنظور الإسرائيلي للسلام والتسوية، اللقاءات السرية بين الملك الحسين والإسرائيليين، أجواء ما بعد حرب 1973، منظمة التحرير الفلسطينية وتفاصيلها، صناعة القرار في الأردن، حرية الصحافة، إدارة الشأن المحلي الأردني، المخابرات العربية... ولكن، من المهم أن لا تتم "مساءلة" الكتاب وانتقاده ومؤاخذته بسبب عدم تضمّنه إطلالةً على هذه الواقعة أو تلك في البلد العربي الفلاني أو العلاني، فالرجل كان يدوّن ما يعنيه مما سمع وقال ورأى، ولم يزعم أن كتابه شافٍ ووافٍ لكل ما جرى في البلاد العربية في السنوات التي يحيل إليها عنوان الكتاب. والأدعى أن يُلتفت إلى ما تضمنه الكتاب، لا إلى ما غاب عنه. ومن كثير جدا اشتمل عليه الكتاب جواب الملك الحسين، بعد عودته من محادثات مع الرئيس الأميركي جيمي كارتر، على سؤال رئيس تحرير صحيفة الرأي، محمود الكايد، في 15 /3 /1977، عن موقف الأميركيين من منظمة التحرير الفلسطينية، فيجيب الملك إن الأميركان سيتصلون بالمنظمة وغير المنظمة. وفي تلك الأجواء، يفيد عدنان أبو عودة إن وزير الخارجية الأميركي، سايروس فانس، يطلب في عمّان، في 7/8/1977، أن يعدّ الأردن مشروع اتفاق سلام، ويبقى سريا، ولا يطّلع عليه أحد من العرب، أو الغرب أو إسرائيل، لكن الملك الحسين يرد إنه لا يمكنه أن يفعل ذلك، لأن منظمة التحرير الفلسطينية هي المسؤولة عن الضفة الغربية، وليس الأردن الذي يمكن أن يقدّم أفكارا تساعد في صوغ معاهدة سلام (ص 421). وفي موضع آخر، يتساءل عدنان أبو عودة أمام الملك الحسين في 1/8/1979: ماذا نريد من المنظمة؟ هل نراها عنصرا مهددا أمنيا فحسب؟ يعلق الملك إنه لا بد من النظر إليها كفاعل سياسي، ويجب أن ننظم أمورنا معه.
وفي شأن اللقاءات السرّية التي عقدها الملك الحسين مع قيادات إسرائيلية، ينقل عدنان أبو عودة في يومية 26/5/1984 عن الملك قوله إن "شيمون بيريز ماكر ومماطل، وفي كل مرة
نصائح للملك
وإذ يزيد كتاب "يوميات عدنان أبو عودة.." عن ألف صفحة، فإن الإطلالة الوافية على مجمل ما يضيء عليه من أحوالٍ عربيةٍ كثيرة، ومن وقائع في غير شأن عربي، فلسطيني وسوري وخليجي وغيره، تحتاج جهدا كثيرا، ووقفاتٍ عديدة عند إشارات لمّاحة وفيرة الأهمية، غير أن هذه السطور تختتم بالإحالة إلى مقطع كثيف الإيحاءات، في يومية 27/2/1986. ويكتب فيه عدنان أبو عودة "على كل حال، أنا - كما كنت دائما في أثناء عملي مع النظام - هدفٌ سهلٌ لمن يبحث عن كبش فداء، فلكوني فلسطينيا، يجد الشرق أردني من السهل اتهامي بأنني أغشّ الملك، ولكوني فلسطينيا أعمل مع الملك، يجد الفلسطيني من السهل اتهامي بالخيانة". (ص 943). وقد آثرت هذه المطالعة الجوّالة في الكتاب عدم الإسهاب في مسألة المكوّن الفلسطيني في الأردن، على الرغم من وفرة الإحالات ذات الأهمية، والحساسية الخاصة، إليها في الكتاب. ليس لإشاحة الاهتمام بها، وإنما بدافع الإضاءة على قضايا ذات بعد عربي في الكتاب، وإن تبقى شؤون الأردن المحلية موضوعا عربيا بداهة، ومن ذلك أن عدنان أبو عودة، يسأل في خاطرةٍ، في يوم 13/5/1977: لماذا لا يتمكّن الأردن من خلق كبرياء وطني يكفل شد الناس بعضهم ببعض.. وإلى أي مدىً تأثرت مسيرة الأردن السياسية بسبب غيابه؟ (ص 394). أما بشأن مسألة غشّه الملك الحسين، فالدلائل وفيرةٌ في اليوميات على سداد النصح الذي كان يُسديه عدنان أبو عودة، ومن ذلك أن الملك قال، في معرض حديثه عن ردٍّ سيبعثه إلى الرئيس الأميركي، رونالد ريغان، "إذا ظنّوا أن بمقدورهم أن يذلوني كهاشمي، ويدخلوني في مفاوضات فاشلة، فهم مخطئون، أنا لا أقبل ذلك". يعلق عدنان أبو عودة على هذه الجملة، ويقول للملك: "يا سيدي، الرجاء بلاش حكاية هاشمي، لأن قولها لهم، أو لغيرهم، ستوحي لهم بأنك شخصيا العقبة أمام السلام، وهذا قد يفسر بأن إزاحتك هي الطريق الصحيحة". أجاب بسرعة: "نعم أفهم ذلك". والتفت إليّ الأمير الحسن، وقال بصوت منخفض، وقد وقفنا جميعا،
ومع اختتام سطور هذه المطالعة لكتاب شائق ومثير، وذي أهمية في إضاءاته الأردنية والعربية، لعله ضروريا أن يُشار إلى أن الذاتيّ الجوانيّ الشخصيّ حاضر، لكنه قليل، ومن أبلغ ما على صلةٍ بهذا الجانب، ما أورده عدنان أبو عودة في يومية 20/11/1977، وكان يوم العيد، ويوم صلاة السادات في المسجد الأقصى. يكتب إنه لم يذهب إلى صلاة العيد، لكي لا يفوّت فرصة الاستماع إلى وقائع الصلاة في "الأقصى". .. ويكتب ".. الكثرة الكاثرة استهجنت واستنكرت، وربما كادت تبكي، كما حدث معي حينما شاهدت السادات يمر أمام حرس الشرف الإسرائيلي. ردة فعل طبيعية، ما أزال كالآخرين أحمل القيم والمعايير نفسها. انقسم الناس، منهم من كان أسرع في الحكم على الحدث بالقيم الجديدة التكوين، ومنهم من ارتكز على قيم الماضي واستمر بالندب" (ص 431). وفي اليوم التالي يكتب عن لحظة متابعة خطاب السادات في الكنيست "الكبار حيارى متألمون، والصغار ينظرون في العيون، ليعرفوا السبب، وليقرأوا في ملامحنا إن كان ما يفعله السادات خطأ أم صواب. تشجّع ابني سعد وسأل: هل هذا جيد؟ شعرت بأنه أكثر حريةً مني، لأنه غير مكبّل بما كبّلت به عبر أكثر من أربعة عقود من عمري من آراء وعواطف تجاه اليهود وإسرائيل، إذ باستطاعته أن يسأل من منطلق أنه يرى حدثا مجرّدا، لا رابط له بأي شيء في وجدانه. تحيّرت في الإجابة، وقلت: لا أدري، نعم، لا أدري (ص 432).