يوم تاريخي مبين انتظره السوريون بفارغ الصبر

10 ديسمبر 2024
+ الخط -

وأخيراً، سقط حكم آل الأسد الذي أسّسه حافظ الأسد ليحكم سورية على مدى 30 عاماً، ثمّ أورثه (وهو في قبره) إلى ابنه بشّار ليحكم 24 عاماً. أيّ أن مجموع أعوام حكم الأب والابن بلغ 54 عاماً، مع العلم أن الخلافة الأموية (المفصلية في التاريخ الإسلامي) استمرّت في عاصمتها دمشق نحو 88 عاماً فقط.
وأخيراً هرب الدكتاتور الهزيل المستبدّ الفاسد المُفسِد، الذي كان من الواضح أنه منفصلٌ عن الواقع، يعيش عالمه الخاصّ المبني على جنون العظمة، وربّما على أمراض نفسية أخرى قد يُرفَع الغطاء عن أسرارها في ما بعد، مع العلم أن عبد الحليم خدام في مقابلة من مقابلاته التلفزيونية أشار إلى أمر من هذا القبيل، حين بيّن أن العظمة لدى بشّار هي ما كان يردّده المؤيّدون له، المستفيدون من سلطته بكلّ صفاقة، "الأسد أو نحرق البلد". وقد كانت هذه الصفاقة تبلغ ذروتها حينما كانوا يُسبغِون عليه صفات الحاكم الإله، أو الحاكم المؤلّه، كما كان عليه الحال مع والده.
لم تحصل سلطة آل الأسد في يوم على شرعيّة وطنيّة حقيقيّة أقرّها السوريون، فالأسد الأب سيطر على الحكم بانقلاب عسكري، والأبن أتى إلى الحكم بانقلاب على الدستور، الذي كان والده قد وضعه من دون إرادة السوريين، ليكون في مقاس حكمه. ولكنّ الذين أشرفوا على نقل السلطات إلى الابن، بناءً على ترتيبات الأب في أيامه الأخيرة لم يجدوا حرجاً في تجاوز الدستور المعني، فأمروا بتعديله من مجلس الشعب الشكلي، وهكذا، بقدرة قادر، وخلال خمس دقائق، أدخلوا تعديلاً في المادّة التي كانت تنصّ على أن المرشّح لمنصب رئيس الجمهورية ينبغي أن يكون عمره 40 سنة حدّاً أدنى، ليصبح هذا العمر، بموجب التعديل الجديد لصالح بشّار، أي 34 سنة، ليتطابق تماماً مع عمره في ذلك الحين.

اعتقد كثيرون أن "ردع العدوان لن تكون سوى عملية استعراضية إعلامية كسابقاتها، ولن تخرج من نطاق المنافسة والصراع بين الفصائل العسكرية في المنطقة الشمالية الغربية

ومنذ استلامه مهامّه، أطلق بشّار الأسد الوعود الإصلاحية، ووعد السوريين بأن الأمور ستكون أفضل على صعيد حرّية التعبير، والظروف المعيشيّة، واحترام كرامة المواطن. وكان "ربيع دمشق" الذي بدأ بـ"بيان 99"، ثمّ "بيان الألْف"، وساهم مفكّرون ومثقّفون بارزون في ذلك الحراك الواعد، منهم الراحلون صادق جلال العظم وأنطون مقدسي وطيّب تيزيني وميشيل كيلو وغيرهم كثير كثير، بعضهم من الراحلين، وآخرون ما زالوا على قيد الحياة يشكرون الله الذي مكّنهم من رؤية هذا اليوم الحلم، يوم سقوط حكم آل الأسد المستبدّ الفاسد المُفسِد.
من الواضح أن تفاعلاً ما حدث في الأيّام الماضية بين العوامل السورية الداخلية من جهة، والتوجّهات الإقليمية والدولية من جهة أخرى، في ضوء ما حصل في لبنان على صعيد الجهود الغربية في ميدان الحدّ من النفوذ الإيراني في المنطقة، هذا النفوذ الذي يتمثّل في مشروع توسّعي أنهك دول ومجتمعات المنطقة، وقد أسفر هذا التوجّه الغربي مع القوى المتحالفة، واعتماداً على طاقات السوريين الميدانية، وتفانيهم في سبيل تخليص شعبهم وبلدهم من براثن سلطة لم تجلب لهم على مدى نحو ربع قرن من حكم الابن، و30 عاماً من حكم الأب، سوى الخيبات والويلات، وسدّت الآفاق أمام الجيل السوري الشاب الذي اضطر للخروج إلى الشوارع في معظم المدن السورية يطالب بالإصلاح بصورة سلمية، إلى أن فرضت السلطة بتوحشها خيار العسكرة على السوريين، فكانت المآسي، وكان التدمير والقتل والتهجير، وخرج الملايينُ من السوريين، لا سيّما من أصحاب الخبرات ورؤوس الأموال، ومن حملة الشهادات الجامعية الشباب، يبحثون في المهاجر المختلفة عن مستقبل يضمن لهم الحرّية والكرامة والعدالة، بعدما قطعوا الأمل من بلوغ هذه الحقوق البدهية في وطنهم، وفي ظلّ حكم يحترم شعبه ونفسه. ومع ذلك كلّه لم يقطع السوريون الأمل، وظلّوا بكل عناد وصبر يطرقون جميع الأبواب بحثاً عن أصدقاء مساندين لقضيتهم، يسعون بكلّ إمكاناتهم إلى حشد التأييد لقضيتهم، ودحض مزاعم السلطة، ومحاكمة مسؤوليها أمام المحاكم الأوروبية وغيرها.
ومع انطلاقة عملية "ردع العدوان"، اعتقد كثيرون أنها لن تكون سوى عملية استعراضية إعلامية كسابقاتها، ولن تخرج من نطاق أنها وجه من أوجه المنافسة والصراع بين الفصائل العسكرية في المنطقة الشمالية الغربية من سورية. ولكن مع تمكن القوات التي شاركت فيها (هيئة تحرير الشام والفصائل المتحالفة معها)، من تحرير حلب، وتوجّهها نحو حماة، ومن ثم حمص، تيقّن الجميع داخل سورية وخارجها أن مسألة سقوط بشّار الأسد باتت مسألة وقت؛ إلا أن الخشية كانت متمثّلة في إمكانية حدوث مواجهات عنيفة بين الفصائل المعنية، وما تبقّى من الجيش الذي كانت السلطة الأسدية تهيمن عليه، وهو الأمر الذي لم يحصل (والحمد لله) نتيجة وصول قيادات الجيش المعني المغلوب على أمره إلى قناعة راسخة باستحالة الدخول في أيّ مواجهة حقيقية مع المهاجمين، الذين تعاطف معهم الناس، وانضمّ قسم كبير من المتطوعين الثائرين على سلطة آل الأسد إلى صفوفهم. هذا إلى جانب فرار عناصر حزب الله، وعجز النظام الإيراني عن تقديم المساعدة، خاصّة بعدما سدّت عليه الحكومة العراقية الأبواب، وبعد تأكّد النظام المذكور من أن قواته ستكون هدفاً مباشراً لطائرات التحالف في حال دخلت سورية لمساعدة سلطة بشّار الأسد.
يعيش السوريون اليوم فرحاً عامراً غامراً نتيجة سقوط حكم الطغاة، وهم يستعدّون للتعامل بمسؤولية مع تحدّيات اليوم التالي، التي لن تكون سهلة بطبيعة الحال، وذلك بعد هذه السنوات الطوال كلّها من الحكم المستبدّ، الذي أخرج المجتمع السوري في واقع الحال من علم السياسة، لا سيّما من ناحية عدم سماحه بتشكيل الأحزاب الوطنية، وإحداث انشقاقات في الموجود منها. فلو وجدت الأحزاب الوطنية المعارضة الكبيرة اليوم لكان من شأنها أن تبادر وترسم الخطّ السياسي، وتضع خريطة طريق تتناسب مع الواقع السوري ومشكلاته.
ومع ذلك، يلزم الواجب الوطني جميع القوى والأحزاب الموجودة التي كانت معارضةً حكم آل الأسد وناضلت من أجل التغيير لمصلحة الشعب السوري، إلى جانب الشخصيات السياسية والفكرية والاقتصادية والمجتمعية بصورة عامّة، المعروفة بوفائها لسورية وللسوريين، التوافق على برنامج وطني جامع، يحترم خصوصيات سائر المكوّنات المجتمعية السورية، ويعترف بحقوقها ضمن الولاء الوطني العام. ومثل هذه الخطوة من شأنها قطع الطريق أمام تباينات أو منافسات، قد تتحوّل صراعاتٍ (لا سمح الله!)، صراعات قد تستغلها القوى الخارجية، لا سيّما الإقليمية المتربّصة بسورية لتدعم ثورة مضادة تهدّد الانجازات التي حقّقها الشعب السوري بدمه وعرقه، وبسنوات من البؤس والحرمان في مخيّمات اللجوء والمهاجر، حيث كان السوريون عرضة لمختلف الحملات العنصرية البغيضة.

دولة مدنية في سورية، تأخذ مسافة واحدة من سائر الأديان والمذاهب والقوميات والتوجّهات الفكرية، سبيل للقطع مع ذهنية الانتقام

والنقطة الأكثر أهمية، التي ينبغي أن يتوافق عليها السوريون، هي أن يلتزموا القطع مع ذهنية الانتقام، وعدم الانسياق خلف النزعات الانفعالية التي من شأنها تكريس الأحقاد وروحية الكراهية. وهذا يتحقّق عبر الدولة المدنية التي تأخذ مسافة واحدة بصورة إيجابية من سائر الأديان والمذاهب والقوميات والتوجّهات الفكرية. حكومة تحقّق المساواة العادلة بين الرجل والمرأة، وتزيل العقبات أمام الأخيرة لتساهم بكفاءة واقتدار في نهضة مجتمعها وازدهاره.
وحتى نكون واقعيين، لا بدّ أن نتحسّب منذ الآن لخروقات وتجاوزات فردية قد تحدث هنا وهناك، لذلك علينا أن نتخذ الإجراءات لبناء آلية واضحة وفق القوانين للتعامل معها ومعالجتها، والحيلولة بالطرق كلّها من دون تحوّلها ظاهرةً عامّةً تمسّ هذا المكوّن أو ذاك، هذه الشريحة المجتمعية أو تلك. السوريون يحتاجون اليوم، وبأقصى سرعة، إلى حكومة أو إدارة (لا يهمّ الاسم) تقوم بمهام المرحلة الانتقالية، وتسهر من أجل تأمين احتياجات المواطنين وتقديم الخدمات لهم؛ وذلك إلى حين التوافق على دستور جديد للبلاد، يحدّد نظام الحكم، وآلياته، والقواعد التنفيذية، تمهيداً لإجراء انتخابات نزيهة شفّافة بإشراف عربي ودولي، تراعي ضرورة تمثيل سائر المكوّنات، وتكون مقدّمةً لحكم وطني ديمقراطي يضمن الحرّية والكرامة والعدالة المجتمعية لسائر السوريين من دون أيّ تمييز، ويجعل من سورية ميداناً لتمازج ثقافي حضاري، ومنصّةً لحواراتٍ إقليميةٍ دوليةٍ لصالح شعوب المنطقة ومستقبل أجيالها المقبلة.
مبروكٌ النصر المبين الذي حققه الشعب السوري بعد سنوات من الكفاح المرير، وحفظ الله سورية وأهلها من أيّ مكروه.

8801BA5A-2E79-4DFD-ACA8-06C922BECC8F
8801BA5A-2E79-4DFD-ACA8-06C922BECC8F
عبد الباسط سيدا

كاتب وسياسي سوري، دكتوراه في الفلسفة، تابع دراساته في الآشوريات واللغات السامية في جامعة ابسالا- السويد، له عدد من المؤلفات، يعمل في البحث والتدريس.

عبد الباسط سيدا