بوتين الكاوبوي حين يهدد ويتوعد
اشتكى الرئيس الأوكراني، بترو بيروشينكو، لرئيس اللجنة الأوروبية، خوسيه باروزو، من تهديدات الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في مكالمة هاتفية أجراها الأخير، وجاء فيها، بحسب صحيفة "زود دويتشيه تسايتونغ" الألمانية في 18 سبتمبر/أيلول، باقتحام جيش بلاده خلال يومين ليس فقط كييف، بل ووارسو وريغا وفيلنيوس وتالين، وحتّى بوخارست إذا أراد بوتين ذلك.
وكان بوتين قد هدد باروسو شخصياً بعبارات مشابهة، وأبلغ الأخير رؤساء دول المنظومة الأوروبية وزعماءها في هذا الشأن، ما يدلّ على عصبية بوتين المرتبطة بإمكانات توسّع حلف الناتو على حدود بلاده، وارتفاع وتائر العقوبات الاقتصادية المؤلمة، ويبدو أنّ توقّعات بوتين لتبعات عملية ضمّ القرم لم تبلغ هذا الحدّ من المواجهة والحصار الاقتصادي.
ويرى محللون أنّه لا حرج في الاستفتاء الشعبي الذي أسفر عن انضمام القرم للفيدرالية الروسية تقليداً ديمقراطياً، كما حدث في اسكتلندا التي فضّلت البقاء في إطار المملكة المتحدة، لكن هذه المقارنة غير واقعية، ومنافية للقانون الدولي، لأنّ استفتاء القرم جاء نتيجة صراع عسكري دام، وتحت وقع التدخّل العسكري للقوات الروسية، لترجيح الكفّة لصالحها، خلافًا لاستفتاء اسكتلندا.
أمّا بشأن تحدّي بوتين المنظومة الأوروبية، فهي انعكاس للحصار السياسي والاقتصادي الذي تعيشه روسيا، وردّة فعل تبدو طبيعية للشعبوية السياسية التي يتمتّع بها بوتين، في مواجهته الناتو وطموح أوكرانيا، في المستوى المنظور، إلى الانضمام للاتحاد الأوروبي وللناتو لاحقاً.
وقد حالت العقوبات الاقتصادية دون حريّة الحركة لكثير من كبار السياسة ورجال الأعمال الروس المقرّبين من بوتين، الأمر الذي ترك آثاراً سلبية على الاستثمارات الروسية الخارجية، على الرغم من تقليل بوتين من أهمية هذه العقوبات، واعتباره أنها سيفٌ ذو حدّين، يطال كذلك المصالح الأوروبية، وألمح إلى إمكانية إغلاق الأجواء الروسية أمام الملاحة الجوية الأوروبية، وهذا بمثابة إعلان صريح لحرب باردة بين الطرفين.
بعد كييف، ذكر بوتين إمكانية اقتحام وارسو خلال أيام، حيث بولندا، كما هو معروف، قاعدة متقدّمة للناتو في الجناح الشرقي القريب من روسيا، وما تزال ذكرى مجزرة تالين التي راح ضحيتها نحو 22 ألف ضابط بولندي، أمر ستالين بإعدامهم في العام 1940 قائمة في الأدب البولندي وأرشيف الحرب العالمية الثانية، كما تحطّم الطائرة توبوليف تو 154 التي كانت تقلّ الرئيس البولندي، ليخ كاتشينسكي، في أبريل/نيسان 2010، ومقتل الركاب الذين كانوا على متنها، ومنهم بالإضافة للرئيس جنرالات في الجيش البولندي. وقد تأتّى عن ذلك تحديث أسرار وكلمات السرّ المتعلقة بنشاطات قوات الناتو في العالم، ليقينها من تمكّن الخبراء الإلكترونيين الروس من التعرّف إليها في أجهزة وهواتف الجنرالات البولنديين القتلى على متن الطائرة المنكوبة.
كانت الرحلة التي أودت بعدد كبير من القادة البولنديين، بزعامة الرئيس كاتشينسكي وزوجته، مخصّصة لإحياء الذكرى السبعين لإعدام أولئك الضباط في غابة تالين، وحال الحادث دون اجتماع رئيسيّ روسيا وبولندا في مشهد تاريخي يتيح المجال لتقارب بين البلدين، تاركاً جرحاً عميقًا آخر في تاريخ العلاقات بين البلدين.
ممّا تقدّم، يبدو من الواضح أهمية بولندا الاستراتيجية للدبّ الروسي الذي لا يهادن بشأن أمنه القوميّ، وليس مستغرباً أن يهدّد بوتين باجتياح الجيش الروسي كييف ووارسو، وأبعد من ذلك، موضّحاً لنظيره الأوكراني، بيروشينكو، أن لا يعتمد كثيراً على حماية بروكسل ودعمها. وما تزال ذكرى مقتل الرئيس البولندي، ليخ كاتشينسكي، وزوجته ومعظم النخبة السياسية والاجتماعية والاقتصادية البولندية في العام 2010 حيّة. وتشير تحقيقات في حادث تحطّم الطائرة إلى إمكانية تورّط روسيا في تفجير الطائرة، لوجود آثار لمادة التروتيل والنتروغليسورين في قمرة الطيارين، وتحت مقاعد ثلاثين مسافر. وظهر في العام 2012 شاهد رئيس في القضية، وهو مهندس طيران، واسمه ريميغيوش موس، استمع للحوار بين طاقم قيادة الطائرة وموظف الاستقبال في أرض مطار سموليانسك في روسيا، والذي لن يتمكن من تقديم إفادته لأسباب غامضة. وجاء في أقوال المهندس إنّ ذلك الموظّف طلب من قائد الطائرة خفض ارتفاعها إلى 50 متراً استعداداً للهبوط، وسط ضباب كثيف يحول دون ذلك.
وتقنياً، لا يسمح للانخفاض دون مائة متر، وقبل هبوط الطائرة بثوان، سمع المهندس موس انفجارين على متن الطائرة.
وبغضّ النظر عن صحّة هذه الأقوال والآراء المرتبطة بانفجار الطائرة المنكوبة، وأبعاد الحادثة على بولندا وأوكرانيا وروسيا والناتو والاتحاد الأوروبي، من الواضح في هذا السياق إصرار موسكو على إخضاع بولندا لإرادتها، باعتبارها الحربة المتقدمة لحلف الناتو والقادرة على هتك خاصرتها. ولا يمكن التقليل من مخاوف بروكسل بشأن تهديدات الرئيس فلاديمير بوتين – كاوبوي الكرملين، والذي لا يخشى جيشاً أوروبياً موحّداً، لأنّ هكذا جيش غير موجود، والخطر بالنسبة لبوتين يبقى في حلف الناتو وحربته الشرقية، جارته اللدود، بولندا والخطط المعدّة لكييف.
أما أوكرانيا، فقد أظهر الرئيس الروسي إرادة قوية للسيطرة على الحدود المشتركة معها، والحيلولة دون خضوع الأراضي الأوكرانية لسيطرة الناتو. والتهديدات التي وجّهها للرئيس الأوكراني جادّة، مع اختلاف آليات التنفيذ والضغط، ويبقى الاجتياح أمراً قائماً قد تقوم به القوات الروسية بين ليلة وضحاها، تاركة أوروبا تلعق جراحها، لتتعامل مع تبعات ذلك، من دون القدرة على منعه، ووضعها تحت الأمر الواقع.