أصولية يهودية لسلب مقدسات غير اليهود
اختار بنيامين نتنياهو توقيتاً "مثالياً" لتوسيع الحملة على المسجد الأقصى في القدس، وهو ارتفاع موجة الإسلاموفوبيا مجدداً في الغرب، في أجواء الحملة العسكرية الإقليمية والدولية على تنظيم داعش في سورية والعراق. فيما يتصرف الغزاة المستوطنون الذين يستبيحون الموقع الإسلامي المقدس، بدعم علني من جيش الاحتلال وشرطته، على نحو أقرب ما يكون إلى سلوك داعش لناحية التمييز الديني، واصطفاء الذات بصلافة، وإعلائها على الآخرين، فإن هذا السلوك لا يجد إلا النزر اليسير من الأصداء الساخطة، ناهيك عن غياب ردود الفعل السياسية الجادة، حتى في العالم العربي والإسلامي الغارق في نزاعاته الداخلية، والمستغرق في شهوة السلطة.
للمسجد الأقصى مكانة رمزية عالية وغائرة في الوجدان لدى الفلسطينيين، تتمحور، أولاً، حول كونه الموقع المقدس الثاني لدى المسلمين، بينما يرى السواد الأعظم من الشعب هذا الموقع على أنه يختزل، إلى جانب كنيسة القيامة، روح بيت المقدس وسِرّ المدينة العتيقة التي ظلت تشهد، على الدوام، وئاماً دينياً لا مثيل له، وتجتذب ما لا يُحصى من مؤمنين وزوار من مختلف أنحاء العالم. وفوق ذلك، يمثل المسجد معلماً تاريخياً ووطنياً شامخاً، يجسد خصوصية القدس وفرادتها عبر العصور. بينما يمثل التهويد القسري للمدينة المحتلة والتنكيل المنهجي بأبنائها المسيحيين والمسلمين، وفرض أحادية دينية عليها، ما تختزنه الأصولية اليهودية/ الصهيونية من صلفٍ، ومن إنكار للتاريخ، وازدراء حقوق غير اليهود ومشاعرهم، وهو، بالمناسبة، سلوك سابق على نشوء القاعدة وداعش، وقد لازم الحركة الصهيونية في استيلائها على أرض فلسطين عام 1948، واستكمالها هذا الاستيلاء في حرب العام 1967.
يسترعي الانتباه أن سلطات الاحتلال تعمد، باستمرار، إلى رفع وتيرة القمع، واستباحة الأماكن المقدسة في الأعياد اليهودية. وكأن صورة العيد وطقوسه لا تكتمل إلا بالتنكيل بغير اليهود، واستباحة مقدساتهم، ومنعهم من أداء عباداتهم، وهو ما فعلته هذه السلطات وقطعان مستوطينها، يوم الأربعاء الماضي 8 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، بمناسبة عيد العرش اليهودي. وهو لم يفعله داعش، حتى الآن، الذي لم يستغل عيد الأضحى، مثلاً، للتنكيل بغير المسلمين، وإن كان هذا التنظيم الإرهابي اقترف مثل هذه الجرائم المشينة في العراق خصوصاً، وبدون أن يتواقت ذلك مع حلول أعيادٍ، أو مناسباتٍ دينية للمسلمين.
وغير بعيد عن المسجد الأقصى سوى بعشرات الكيلومترات، فقد أقدمت سلطات الاحتلال على استباحة الحرم الإبراهيمي في الخليل، ووضع مزيد من القيود أمام أداء المسلمين عباداتهم في هذا الموقع الذي يطبع مدينة الخليل، جنوب الضفة الغربية، بطابعه. وفي ذلك، يريد نتنياهو، وائتلاف المتدينين الأشد تطرفاً، بث رسالةٍ، مفادها بأنه لم يعُد للفلسطينيين أماكن إسلامية مقدسة في الضفة الغربية المحتلة، كما كان عليه الأمر منذ أكثر من ألف عام! والرسالة تخاطب كذلك أكثر من مليار مسلم في أربع أنحاء المعمورة. وهو سلوك داعشي بامتياز، والفرق أن دولة قائمة عضواً في الأمم المتحدة ووكالاتها، وجيشاً كاملاً وميليشيات استيطان مسلحة وشرطة احتلال، هي من تزاول هذا النهج العنصري المقيت، وعلى رؤوس الأشهاد، وبدعم علني ولوجستي من أحزاب دينية و"قومية"، وليس تنظيماً مسلحاً يخضع للمطاردة والتجريم كحال داعش.
في هذه الغضون، اعتبر الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، أن إسرائيل تريد بذلك جعل الصراع دينياً، فيما هي تدرك خطورة استعمال الدين في الصراعات السياسية، كما قال. ليس من الخطأ بمكان تسمية الأشياء بأسمائها، فالأصولية اليهودية/ الصهيونية المتطرفة هي التي تصوغ معادلات الصراع لدى حكومة نتنياهو. وعلى الرغم من إدراك كل عاقل خطورة استخدام الدين في الصراع السياسي، كما قال عباس، إلا أن نتنياهو لم يثبت يوماً أنه سياسي عاقل، فلن يتورع عن التطلع إلى تحالف ديني ضد المسلمين، يُعزز التحالف السياسي ويوطّده مع الغرب، ويشكّل بطانته الداخلية (الأيديولوجية)، حتى لو قام (وهو يقوم على الدوام) بالتنكيل بالمسيحيين في الأراضي الفلسطينية المقدسة وتهجيرهم، والاستخفاف بأماكنهم الدينية ورموزهم وعباداتهم وأعيادهم، والنظر اليهم كأقلية دينية، لا وزن ولا شأن لها، على الرغم من أن الديار الفلسطينية هي موطن المسيحية الأول ومهدها وبشارتها، قبل أن يحلم من حلم بنحو ألفي عام، بإنشاء دولةٍ صهيونيةٍ فيها، تنفي التاريخ والحقوق الوطنية الأصيلة للبشر، فيما هي تنفي كل ما هو غير يهودي.
من الأهمية بمكان التأشير على تنامي الأصولية المتطرفة لدى القائمين على الاحتلال والاستيطان الحاكمين في تل أبيب، وذلك في سياق نقد الأصوليات في عالمنا، والتحذير من مخاطرها الجمة، بما يشمل الأصولية الإسلامية وغير الإسلامية (اليمين المتطرف الأوروبي والأميركي ذو النزعة الدينية المحافظة)، وكذلك الأصولية العلمانية (الصين مثلاً في تنكيلها بالمسلمين الصينيين الإيغور وغيرهم، وتعدادهم نحو 11 مليون نسمة، ومنعهم من ممارسة عباداتهم كصيام رمضان، ومنح مكافآت مالية للتزاوج بين هذه الأقلية بالذات وغيرها، سعياً إلى تذويبها وتبديد هويتها)، وفي إطار التمسك بالحقوق الثابتة، وبالطابع الوطني التحرري/ المدني لقضية فلسطين وشعبها.
وبينما تنشط الحركة الصهيونية بغير كلل في التنديد باللاسامية لدى حدوث أدنى انتهاك لمكانة اليهود، فواقع الحال يفيد بأن سلطة الاحتلال تمارس، من جانبها، اللاسامية بالجملة تجاه شعب رازح تحت الاحتلال ذي أرومة سامية، ولا تتوانى هذه الحركة ودولة الاحتلال عن شحن الصراع بمضمون ديني، وبتعبئة دينية مكشوفة، لطمس الطابع السياسي والحقوقي والأخلاقي للصراع، وبأمل اجتذاب أصحاب النزعة المحافظة في الغرب، وتجنيدهم لمعاقبة الفلسطينيين الذين يعتنقون، في غالبيتهم، الإسلام.
هكذا تبدو دولة الاحتلال والاستيطان شريكاً أساسياً في صحوة الأصوليات التي يزخر بها عالمنا، خلافاً للصورة النمطية الزائفة والملتوية عنها "واحة للديمقراطية" في الشرق، فالديمقراطية والعنصرية لا تلتقيان، والديمقراطية والأصولية لا تجتمعان.