عن "اللجان الأمنية" اللبنانية ..
من العادات اللبنانية "الأصيلة" التي أفرزتها الحرب الأهلية (1975 ـ 1990)، كانت فكرة "اللجان الأمنية". كانت من ممثلين لأطراف ميليشياوية متناحرة، ومعهم ممثل عن الجيش اللبناني، يجتمعون لوقف إطلاق نار مفاجئ، أو "السهر على هدنة ما"، أو الإشراف على تبادل أسرى بين الجانبين. أبرز تلك اللجان كانت العاملة على خط التماس بين البيروتين، الشرقية والغربية، وضمّت أنواعاً متعددة من الأحزاب والجيوش والميليشيات. على الخط الأخضر في العاصمة اللبنانية المنقسمة، كانت الجيوش اللبنانية والسورية والإسرائيلية، والمنظمات الفلسطينية، والقوات اللبنانية والحزب التقدمي الاشتراكي وحركة أمل والكتائب والأحرار والمرابطون وغيرهم كثر، أعضاء متغيّرين وثابتين في اللجان الأمنية.
تطوّرت فكرة اللجان، ولم تعد محصورة في الجمع بين الميليشيات اليمينية واليسارية، بين المسيحيين والمسلمين، بين السوريين واللبنانيين، بين اللبنانيين والفلسطينيين، بل تشعّبت وباتت لكل حيّ وطريق وشارع، وذلك بعد تكاثر الحروب، وتناسلها داخل كل طائفة وحزب، في موت عبثي، لم يوفّر أحداً على أرض لبنان.
وأكثر من عملها الميداني، شكّلت اللجان فكرة مهمة في اللاوعي الشعبي اللبناني، وهي فكرة "غياب الدولة بجيشها"، أو أن تُصبح الدولة جزءاً من حراك ميليشياوي، يتناسخ وينمو على وقع غيابها بالذات. كانت عبارة "اللجان الأمنية"، ولو في حضور ممثل للجيش اللبناني، مجرّد تأكيد على فقدان الدولة هيبتها وشرعيتها وقوتها. ومع أنه كان من المفترض أن يؤدي اتفاق الطائف الهادف إلى وقف الحرب اللبنانية، في 1989، إلى إعادة بسط سلطة الدولة على كامل أراضيها، وإلغاء منطق "اللجان الأمنية"، لكنه لم يحصل. وكان من الطبيعي أن يتمّ الأمر بالتدريج، وفق بنود إعادة الانتشار العملياتي للقوى الأمنية والجيش اللبناني في كل لبنان. ولكن.
ولكن، ما جرى كان مجرّد بداية "هدنة طويلة". اللجان لم تنتهِ، بل وُضعت على الرفّ، إلى حين عودتها يوماً ما. كان الجميع يدرك في قرارة ذاته أن اتفاق الطائف ليس حلاً نهائياً، بل هدنة موقتة، قد تدوم 30 سنة، لكنها هدنة. والبرهان على ذلك تعدد التجاذبات التي سادت وتسود تحت إطار الاتفاق نفسه. وفي ظلّ عدم قدرة اتفاق الطائف على تمتين مفهوم الدولة في لبنان، كان "طبيعياً جداً" أن تبدأ اللجان الأمنية بالعودة شيئاً فشيئاً. ودشّنت مرحلة ما بعد الانسحاب السوري من لبنان، في 26 أبريل/نيسان 2005، مرحلة جديدة من اللجان الأمنية، كرّستها أحداث 7 مايو/أيار 2008، وتحديداً بين "حزب الله" والحزب التقدمي الاشتراكي بزعامة النائب وليد جنبلاط، واشتباكات جبل محسن ـ باب التبانة في طرابلس (2008 ـ 2014)، فضلاً عن الاشتباكات المتفرقة في بيروت.
تطوّر مفهوم "اللجان الأمنية"، وزاد في الأشهر الأخيرة، حتى بات عنواناً عريضاً في الأحاديث اليومية. لم يعد منحصراً في بيروت ومناطق جبلية مجاورة، كالشوف وعاليه، بل اتّسع مداه ليصل إلى مناطق البقاع الغربي وراشيا وحاصبيا اللبنانية، في ظلّ تنامي مخاوف جنبلاط من أي اختراق لتنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) لمناطق نفوذه عبر الجولان السوري. هذا موضوع آخر.
فكرة "اللجان الأمنية" تحديداً تُصيب الدولة في مقتل، وهي تعبير صريح عن عدم ثقة النظام السياسي اللبناني بالجيش، وتركه فريسة سهلة لولاءاتٍ سياسيةٍ متعددة، عدا عن محاولة تدجينه حارساً للنظام الطائفي. كما أن انتقال الميليشياويين من الشوارع إلى حكم الدولة ساهم أكثر في تفكيك بنية الجيش من جهة، وفي ازدهار "اللجان الأمنية" من جهة أخرى. هي مأساة بوجهين: ترك الميليشياويين في السلطة باسم الطوائف اللبنانية، والسماح بعودة "اللجان الأمنية" من الباب الواسع، على خلفية أحداث عرسال أخيراً. الآن، لو أردنا تسليح الجيش، وهو أمر ضروري وواجب، علينا قبل ذلك البدء بإنهاء ظواهر "اللجان الأمنية"، وإلا فأهلاً بالحرب مجدداً.