انتخابات الغائب في الجزائر ومصر
جرت في الجزائر، وتجري في مصر، وإنْ ليس رسمياً بعد، حملتان انتخابيتان لاختيار رئيسين للبلدين، لم يسبق أن شهد التاريخ مثيلاً لهما. المرشحان الرئيسيان في كل منهما، إنْ لم نقل المرشحيْن الفائزيْن قبل توجه الناخبين إلى صناديق الاقتراع، غائبان عن حملاتهما الانتخابية، ليس لأنهما قررا مقاطعتها، وإنما لأنهما يضعان نفسيهما فوق كل حملة انتخابية.
في مصر، قال المرشح عبد الفتاح السيسي، وهو يعلن ترشحه ببذلته العسكرية، إن حملته لن تكون تقليدية، فهو لن ينزل إلى الشارع لملاقاة الناخبين، ومحاولة إقناعهم ببرنامجه الانتخابي الذي لم يكشف عنه، حتى بعد أكثر من أسبوعين على إعلانه ذاك. وفي الجزائر، لم يكلف الرئيس عبد العزيز بوتفليقة نفسه حتى عناء الإعلان عن ترشحه، أو على الأصح، لم تسعفه ظروفه الصحية للإعلان عن ترشحه لأعلى منصب في بلاده، فكلف بذلك رئيس حكومته الذي تولى قيادة حملته الانتخابية بالنيابة عنه، فيما اختار هو التواري داخل قصره، في انتظار مبايعته!
الحملتان الانتخابيتان في مصر والجزائر تعدّان سابقتين من نوعهما في تاريخ الاستحقاقات الانتخابية في العالم، وستُدخلان العرب إلى كتاب غينيس، لأنهم ابتدعوا نوعاً جديداً من الانتخابات من دون حملات وبرامج وبمرشحين غائبين، ومع ذلك، لا أحد سينتزع الفوز المؤكد من مرشحين، يضعون أنفسهم فوق كل شيء، حتى قبل أن تجري تلك الانتخابات!
" |
في مصر، كما في الجزائر، تبقى إرادة الشعب مغيبة، أو على الأصح، مصادرة من القوة الحقيقية التي تتحكم في مصير البلاد والعباد. إنها قوة المؤسستين العسكريتين في الدولتين. فقد ظلت مصر طوال أكثر من 60 عاماً تحت حكم العسكر الذي أسقطته ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، ليعود من جديد بعد انقلاب 3 يوليو/ تموز 2013. وها هو اليوم مرشح العسكر، الحاضر الغائب في الحملة الانتخابية، الأكثر حظوظا في الفوز في الانتخابات، التي تحولت إلى حملات للمبايعة. أما الجزائر فظلت تديرها طوال سنوات استقلالها المؤسسة العسكرية التي حولت البلاد إلى مجرد شركةٍ كبيرة للنفط والغاز، أعضاء مجلس إدارتها من الجنرالات الذين يحكمون البلاد من وراء الستار.
لا تلتقي المقارنة (أو المشابهة على الأصح) بين مصر والجزائر، فقط، في أن البلدين حكمتهما وتحكمهما المؤسسة العسكرية، بوجه سافر تارةً، ومن وراء الستار تارة أخرى. وإنما، أيضاً، من أنهما البلدان اللذان شهدا أول انتخاباتٍ نزيهة سرعان ما انقلبت على نتائجها المؤسسة العسكرية. فقبل انتخابات مصر في 2012، والتي حملت إلى سدة الرئاسة في البلاد أول رئيس مدني منتخب بطريقة ديمقراطية، شهدت الجزائر، بداية التسعينيات من القرن الماضي، أول انتخابات تشريعية نزيهة في العالم العربي، منحت الفوز إلى حزب إسلامي، سرعان ما انقلب عليه العسكر، وأدخل البلاد في حرب أهلية، ذهب ضحيتها عشرات الآلاف، خسرت فيها الجزائر ديمقراطيتها الوليدة، ومستقبلها الذي لا يزال معلقا إلى المجهول. وما تشهده اليوم مصر من مواجهات دامية في شوارع مدنها يذكّرنا ببدايات الحرب الأهلية الجزائرية، والتي لا يتمنى أحد أن تتكرر في مصر.
إثر ثورات "الربيع العربي"، جرى حديثٌ عن اتجاه رياح جديدة لما سمي بـ "الموجة الرابعة للديمقراطية"، وكان مركزها العالم العربي نفسه. وإذا كانت أنظمة الاستبداد العربية قد عرفت كيف تجنّب كراسي حكمها، وعروش ملكها، موجات الديمقراطيات السابقة، فإن الاعتقاد كان سائداً بأن الموجة الرابعة ستبدأ أولاً، ولا محالة من إحداث الـتغيير في مركزها، قبل أن تنداح دوائر تأثيرها، بعيداً عن نقطة انطلاقها. لكن، يبدو أن العبقرية الاستبدادية العربية نجحت، مرة أخرى، في الخروج من شباك هذه الموجة.
سيحق، اليوم، لمنظري "الديمقراطيات العربية" ما بعد موجة "الربيع العربي"، أن يباهوا باختراعهم نوعاً جديداً من الديمقراطية، تقوم على حملاتٍ انتخابيةٍ فريدةٍ، إنها "انتخابات الغائب" على غرار "صلاة الغائب"، وسنجد أنفسنا مطالبين، عاجلاً أو آجلاً، بإقامتها على شيء اسمه "الديمقراطية" المغتالة في عالمنا العربي. مع ذلك، فإن ثمة ضرورة لتوضيح الالتباس في المعنى الحقيقي للعبارة، لأن الغائب الحقيقي ليس المرشح الغائب ـ الحاضر، وإنما "إرادة الشعب" المغيبة، أو "المحتقرة"، وهذه هي الرسالة البائسة التي يريد أن يبعث لنا بها هذا النوع من الانتخابات "المبرمجة"، جواباً على شعار "الشعب يريد...".