ليبيا بين الانتقال السلمي والصراع السياسي (2 -2)
قدمت وسائل إعلام ليبية اللواء خليفة حفتر على أنه منقذ من حالة الفراغ السياسي المحتملة، وأن في وسعه المضي في عملية بناء المؤسسات بأكثر سرعة، وكان يتحدث عن قدرته على حفظ الأمن في بنغازي، وأن تحركاته لا تهدف إلى الحصول على مناصب سياسية، لكنها دفاع عن الوطن، والبدء بإعادة بناء المؤسسة العسكرية.
وكانت السياسة الأخرى لترويج حفتر شخصيةً تقود البلاد إلى فترة انتقالية مفتوحة، بتوظيف التظاهرات في الشرق الليبي، لتأييد الإعلان العسكري. وكان لافتاً أَن هذه التظاهرات انتشرت، ورفعت فيها صور حفتر، وعلى التوازي، انتشرت حملة إعلامية على مواقع التواصل الاجتماعي، تركز الضوء على شخصية حفتر، كقيادة عسكرية تستطيع إنقاذ البلاد.
ولم يتوقف الأمر عند التلاقي، حيث دشّنت حملة إعلامية لترجمته أَحداثاً، توضح مدى تداعي مؤسسات الدولة، وتواطئها ضد دول الجوار، فقد نشرت أخبار عن سيطرة قوات ليبية تابعة لـخليفة حفتر على مطار طرابلس الدولي، بالتنسيق مع لواء القعقاع الزنتاني، كما تضمن الخبر الاستيلاء على طائرة عسكرية قطرية، محملة بالأسلحة والذخيرة، هبطت في المطار للتزود بالوقود، وكانت تستعد لتزويد ميليشيات تابعة للقاعدة في مصر وتونس.
وشهدت هذه النوعية من الشائعات اتساعاً في المساحات الخبرية، بحيث صارت تنقل إلى الرأي العام رؤية وحيدة، تتمثل في تصلب موقف المؤتمر الوطني، وتمسكه بالتمديد، واعتبرته حجر عثرة أمام مصالح الدولة. لذلك، تخلص إلى أن الحل في حل "المؤتمر"، بعد إيجاد بيئة معادية للمؤسسات الانتقالية.
وفي سياق الأزمة السياسية، أثار السفير الليبي في القاهرة، محمد فايز جبريل، قضية تسليم المطلوبين في مصر، حيث اشار في خطوة تصعيدية إلى احتمال لجوء ليبيا إلى المحكمة الجنائية الدولية، مما يعني زيادة مساحة الخلافات بين البلدين، خصوصاً في ظل احتمالات ارتباط "قذاف الدم" بالتوتر الداخلي في ليبيا.
واستناداً لتصريحات محمود جبريل في جريدة "الحياة" (16 فبراير/ شباط) عن ميول "قطر لدعم الإسلاميين"، علق السفير الليبي في الدوحة، عبد المنصف البوري، وقال إن الدعم القطري اتجه إلى كل الثوار من دون استثناء، بحيث شمل الدعم كل التوجهات السياسية، الليبراليين والإسلاميين، وكانت المعونات القطرية تصل عن طريق "المكتب التنفيذي الليبي" في الدوحة، واستقبلت قطر كل ثوار المناطق كمجموعات وأفراد وقبائل وشخصيات إسلامية، لتلقي مساعدات عسكرية ومادية وإعلامية.
تحالفات مهتزة
وعلى الرغم من ضعف الخطاب السياسي للواء حفتر وتفككه، فإن الظروف السياسية يمكن أن تساعده في الاستمرار طرفاً في التسويات السياسية المتوقعة قريباً، إذ تشير التطورات منذ فبراير/ شباط الماضي إلى أن الأزمة ساهمت في تقريب المواقف السياسية لبعض الأطراف، خصوصاً التي تعتقد في التخطيط لبدء مرحلة انتقالية جديدة، على أنقاض المؤسسات القائمة، فهناك تفسير لإصدار حفتر بيانه من دون وجود قوات تابعة له داخل السلطة أو خارجها، يقوم على أن تلاقي المصالح سوف يدفع بتحرك مجموعات مسلحة لإسقاط "المؤتمر"، بالاستفادة من الحراك الشعبي، اتساقا مع تلاقي أهداف عدد من الأطراف.
فمن خلال قراءة الخطاب السياسي لـ" التحالف الوطني" و" القعقاع" وحفتر، يمكن ملاحظة أنها تتضافر في فرض واقع سياسي، يوقف استمرار الوضع الحالي، حيث يتم التركيز على الاختيار بين مسارين؛ الانتقال إلى وضع شبه دائم، بانتخابات مبكرة على أساس تعديلات واسعة في الإعلان الدستوري، تتضمن صلاحيات واسعة لرئيس الدولة، وانتخابه مباشرة من الشعب، أو تجميد المؤسسات، وبدء مرحلة جديدة غير واضحة الاتجاه، بغض النظر عن تقارب آثار البديلين على الفترة الانتقالية، يشكل استنادهما إلى مكونات عسكرية وسياسية، داخلية وخارجية، تحدياً لمسار الثورة والانتقال السياسي، فهذا الإطار يشكل بديلاً متكاملاً للوضع القائم، ويتمتع بإمكانات ترويج مقترحاته، من خلال المنتديات المختلفة.
وتكشف المقارنة بين تركيبة بياني حفتر والقوات المسلحة المصرية في 3 يوليو/ تموز 2013 تماثل البنية اللغوية، وطريقة تغيير المؤسسات، وهي أقرب لنموذج المحاكاة وتوطين التجارب، غير أن مكونات الدولة في ليبيا تختلف، بشكل كبير، عن مكونات الدولة في مصر، ما يؤدي إلى نتائج غير متماثلة.
تكمن المعضلة التي تواجه سياسات الأمن والدفاع في ليبيا في غياب القوات النظامية، وانتشار التشكيلات غير المتناسقة على مستوى البلاد، سواء في وجود كتائب لا تخضع لسلطة الدولة، أو في اندماج تائب في الجيش والأمن ككيان مسلح، وقد أحدثت هذه الحالة نوعاً من انتقال سلطة القرار العسكري والسياسي لهذه التشكيلات.
وتعد العوامل الخارجية من مؤثرات التغيير في السياسة الليبية، ويمكن تفسير الحملات الإعلامية على قطر وسيلة للتغطية على تدخل أطراف أخرى في الشؤون الداخلية لليبيا، فالانتقادات التي توجه لـقطر تتناول اتهامات بالانحياز إلى الإسلاميين، والسعي إلى تخريب العلاقات مع دول الجوار، فيما لا تبدو تقييمات واضحة لدور الإمارات العربية المتحدة، وموقفها من حالة عدم الاستقرار، ودعم المليشيات المسلحة.
وعلى الرغم من أن الحكومة الليبية لا ترغب في استمرار المؤتمر، فإنها تشعر بتهديد من تنامي نفوذ المطالبين بحله، وقد اعتبرت أن بيان حفتر يعد دعوة إلى انقلاب عسكري، وخروجاً على الشرعية، وأَصدرت قراراً بالقبض عليه، لكنها لم تستطع احتواء تحركاته في شرق البلاد، ولم تحل دون تسيير المظاهرات المؤيدة له، أو تمنعه من عقد منتديات ولقاءات، لتجميع المؤيدين لشرح رؤيته للانتقال السياسي.
بين المواجهة والانتخابات
وعلى المسار الموازي، يعمل "المؤتمر الوطني" والثوار على جانبين، الأول حماية مؤسسات الدولة، فإلى جانب تداعي المجالس العسكرية، واستدعاء "المؤتمر الوطني" كتائب الثوار لمواجهة تهديد المكونات المسلحة، ظهرت على المستوى الجماهيري تحركات ترفع شعارات ترفض الاستيلاء على السُلطة، أو العودة إلى حكم العسكر، وتتمسك بالتداول السلمي للسلطة. وصدرت بيانات ترفض دعوة خليفة حفتر لعودة حكم العسكر، وأن التركيز في هذه المرحلة يكون على التداول السلمي للسلطة، ومحاسبة الحكومة ذات الأداء الضعيف.
والجانب الثاني، الاستجابة لمطالب التعديلات الدستورية، فقد انتهت لجنة فبراير/ شباط 2014 من إعداد مسودة التعديلات الدستورية، واقترحت إجراء انتخابات رئاسية ونيابية، بحلول منتصف العام الجاري. ومنحت التعديلات صلاحيات واسعة لرئيس الدولة، وهذا الاقتراح ضمن أربعة بدائل محتملة؛ الانتهاء من الدستور في أربعة أشهر والبدء في بناء المؤسسات، حل "المؤتمر العام" من دون وجود المؤسسة البديلة، أو استمرار عمل "المؤتمر" إلى حين الانتهاء من الدستور، وبغض النظر عن تقييم هذه البدائل وفرص نجاحها في الوصول إلى الدستور في أقل وقت ممكن، يتوقف اختيار واحد منها على المفاوضات السياسية التي تجري بين الأطراف المتعددة، ومدى تماسك الهيئة التأسيسية.
فعلى الرغم من توسع لجنة فبراير/شباط في صلاحيات رئيس الدولة، دعا حزب العدالة والبناء إلى الموافقة على مقترح اللجنة، على اعتبار أنه يرسخ التداول السلمي للسلطة، ويوفر الحد الملائم لاحترام القانون، فيما أنه لم تظهر مواقف أخرى تجاه مقترح اللجنة، وبشكل يعكس حالة التردد إزاء القبول بالحلول الدستورية للأزمة في الدولة.
ويمكن تفسير موقف "المؤتمر الوطني" من عدم التمسك بالمادة 30، والتي تتيح له الاستمرار في الرقابة على الفترة الانتقالية، إلى صدور الدستور، بأنه يأتي لتوفير حلول تجنب البلاد الدخول في أزمة معقدة. وظهرت تقييمات لمقترح لجنة فبراير/شباط، فبخلاف قبول "العدالة والبناء" مقترح لجنة فبراير/شباط، ترى آراء أخرى أن الدخول في انتخابات رئاسية وبرلمانية قبل صدور الدستور يعد استجابة غير مدروسة للتهديدات المسلحة للمؤتمر، والمطالبة بإنهائه، فعلى الرغم من الاعتماد على صناديق الاقتراع حلاً أخيراً، فإن وجود تهديد المسلحين يجعل الانتقال إلى حكم رئاسي مغامرةً لتقويض الديمقراطية، قبل بدء الانتخابات، أو بعدها، حيث يدفع وجود حراك "لا للتمديد"، وبروز العسكر باتجاه حلول استثنائية لا تبدو واضحة الأفق، خصوصا وأن مقترح لجنة فبراير/شباط يفرض صيغة لنظام الحكم، قبل إقرار الدستور، مما يلغي وظيفة الهيئة التأسيسية، أو يضعفها على أقل تقدير، ويفتح الباب أمام اقتراح بدائل أخرى، مع تعثر السير في الوضع الجديد.
لعل المسألة الأساسية التي يكشفها تعقيد المسار السياسي في ليبيا هو ما يتمثل في صعوبة وجود حل حاسم للخلافات السياسية، أو العسكرية، ومن ثم، من الضروري ابتكار بدائل تضمن الخروج من المرحلة الانتقالية، وتساهم في استقرار المؤسسات، وسوف يساهم اجتياز الدولة الليبية هذه الخطوة، بشكل آمن، في زيادة التوافق على الخيارات الدستورية.