06 نوفمبر 2024
البعثيّون والمراجعة المؤجّلة
يقول البعثيون العراقيون إنهم بصدد إجراء مراجعة "شاملة وعميقة" لفترة وجود الحزب في السلطة خمسة وثلاثين عاماً. وفي تسجيل صوتي، ظهر على الموقع الإلكتروني للحزب، يعترف عزت إبراهيم، الرجل الأول في الحزب، للمرة الأولى، بأن قيادة صدام حسين "أهدرت الكثير من الفرص التاريخية (التي) كان بالإمكان استثمارها لصالح النضال الوطني والقومي... وارتُكبت بعض الهفوات القاتلة والانحرافات الخطيرة (التي) ساهمت إلى حد كبير في توفير فرص العدوان الأميركي الصهيوني ..." ويعدّ بالوقوف "عند كل هفوة وكبوة وخطأ جسيم وغير مبرّر، في أول مؤتمر قطري للحزب، ثم في أول مؤتمر قومي، لكي نستخلص الدروس والعبر".
إن أية حركة سياسية، لكي تحافظ على حيويتها، عليها أن تراجع مسيرتها، وتنقد ذاتها لكي تتخلّص من أدران الماضي، وتتجدّد، بغضّ النظر عمّا اقترفته من أخطاء وخطايا، وما سجّلته من مكاسب وانتصارات. وبغضّ النظر، أيضاً، عمّا يحيق بها من عوائق، أو ما يحيط بها من أزمات. والأمر لا يختلف بالنسبة للبعثيين، فقد كانت تجربة الحكم بالنسبة إليهم مثيرة وحافلة بالتحديات، بقدر ما كانت تجربة مريرة وقاسية، ليس على المواطن العادي فحسب، إنما حتى على البعثيين أنفسهم الذين كانوا يرون الشرخ الكبير بين منطلقات الحزب النظرية وما آل اليه حكم الحزب من مزالق وخطايا، ساهمت، إلى حدٍ كبير، في توفير فرص العدوان على العراق، بحسب اعتراف البعثيين أنفسهم.
وقد أعطت الأوضاع الكارثية التي سادت العراق بعد الاحتلال، المبرّر لتأجيل عملية المراجعة، بدعوى عدم إثارة ما يُضعف الجهد المقاوم والمناهض للاحتلال، لكن المبرّر لم يعد مقنعاً، بعد مرور أحد عشر عاماً على هزيمة الحزب، إذ كان يمكن أن تكون الحال أفضل، لو جرت المراجعة قبل "خراب البصرة"، وقبل أن يشمل الخراب كل مرفق وميدان في العراق.
كان من الممكن ألا يصل الحال إلى هذه الدرجة من السوء، لو امتلك قياديو الصف الأول في الحزب الشجاعة ليصارحوا صدام بأخطائه وخطاياه، منذ أقدم على ارتكاب "مجزرة الرفاق" في يوليو/ تموز 1979 بداعي حصول مؤامرة على الحزب والقيادة. في حينها، اختار صدام أن يقيم "دولة المخابرات"، بدلاً من تأسيس نظام ديموقراطي يكفل حرية الوطن والمواطن، فيما اختار رفاقه القياديون الصمت في بعض الأحيان، ومباركة التوجّه في أغلبها!
وكان يمكن أن تكون الأمور أفضل، لو بنى صدام "الدولة القوية"، المتحصنة داخل حدودها المتآلفة مع جيرانها، المنسجمة مع محيطها الإقليمي، والحذرة من تقلّبات محيطها الدولي! والأمور كان يمكن أن تكون أفضل، لو تريّث صدام قبل الدخول في حربٍ مع إيران، ظنّها نزهة، لن تستغرق سوى بضعة أيام، فإذا بها تمتد ثماني سنوات عجاف، استهلكت الكثير من الحرث والنسل في البلدين. والأمور كان يمكن أن تكون أفضل، لو لم يقرّر صدام، في لحظة طيش وتهوّر، غزو جيرانه الكويتيين، ليدقّ المسمار الأخير في نعش "الإعلان القومي" الذي كان قد أعلنه هو نفسه. والأمور كان يمكن أن تكون أفضل، لو التقى صدام وفد المعارضة العراقية الوطنية الذي قدِم إلى بغداد، قبل شهور من العدوان، طارحاً مشروعه لحماية البلاد، لكن صدام، في موقف مكابر، رفض الاجتماع بالوفد، وأوكل الأمر لنائبه عزت إبراهيم الذي أبلغ الوفد أن "حزب البعث هو الذي فجّر الثورة، وأنه وحده قادر على حمايتها"، وبإمكان المعارضين الوطنيين أن يعودوا إلى البلاد لإصدار جريدة". والأمور كان يمكن أن تكون أفضل، لو أنصت صدام لنصيحة طارق عزيز الأخيرة، في أن الأميركيين قادمون، هذه المرة، لغزو البلاد واحتلالها، لكن صدام صمّ أذنيه عنها، والتفت ليسمع أصوات آخرين في أنهم قادرون على مواجهة الغزو وصدّقهم. والأمور كان يمكن أن تكون أفضل، لو رفع رفاق صدام أصواتهم، طالبين تصحيح المسيرة، قبل أن يستفحل الداء ويعزّ الدواء، لكنهم، في كل مرة، كانوا يلوذون بالصمت، فيخسر حزبهم جراء ذلك، ويخسر بلدهم أيضاً.
وكان أن حل البلاء الأصفر، ودخل الأميركيون بغداد، وتفرّق الرفاق الذين جمعتهم التجربة المرّة. استوطن بعضهم صنعاء أو الدوحة أو دمشق أو عمان، ليكونوا على مقربةٍ، فيما آخرون هاجروا بعيداً، لينكفئوا على أنفسهم، يمارسون جَلْد الذات والحنين إلى بلادٍ أضاعتهم وأضاعوها.
والحزب، الذي كان يوماً ملء السمع والبصر، أصبح أحزاباً تتبادل اللوم والعتاب والاتهامات، وكل منها ينحي باللائمة على الآخر، وفي لحظة صحوٍ، تنادى بعضهم لمراجعة التجربة، وحمّلوا القيادة مسؤولية الحال التي وصل إليها الحزب والبلد أيضاً، ودعوا إلى أن يترجّل "الحرس القديم"، عسى أن يساهم ذلك في تجديد الحزب. أوصى عضو القيادة القطرية، سعدون حمّادي، رفاقه، قبل رحيله، بأن "يلملموا صفوفهم، ويناقشوا مرحلتنا (مرحلة وجود الحزب في السلطة) بكل إيجابياتها وسلبياتها، ويتم انتخاب قيادة جديدة، ليس فيها مَن كان ضمن قيادتنا أثناء فترة الاحتلال، والاعتذار للشعب عن أي تصرّف خاطئ". "الحرس القديم" أخذته العزّة بالإثم، ورفض كل دعوات المراجعة والتجديد، حتى التي صدرت من بعض قياديي الصف الأول.
ماذا لو تعلّم البعثيون من تجربة الأحزاب الشيوعية في أوروبا الشرقية التي عانت من مرارة السقوط، وفي فترة قياسية، رجعت إلى نفسها، وراجعت تجربتها، واستطاعت أن تلحق بالركب، وأن تحجز لها موقعاً على الخارطة السياسية في بلادها، من دون أن تشعر بالنقص، أو أن تواصل جلد الذات، أو أن يغلبها الحنين إلى مجدٍ زائل لم يعد ينفعها في شيء؟ ماذا لو عملوا على إطلاق المراجعة "الشاملة والعميقة" التي وعدوا بها اليوم، وليس غداً، وأعادوا تموضعهم، وأخذوا أنفسهم إلى المكان الصحيح، لكي يجترحوا الموقف الوطني الصحيح؟
على أية حال، الاعتراف بحد ذاته، وإن جاء متأخراً، يظلّ حدثاً استثنائياً وفريداً، لكن تأجيل المراجعة "الشاملة والعميقة" إلى مؤتمرٍ قطري، مؤجلٍ هو الآخر، يعني أن الانتظار قد يطول، وأن "غودو" قد لا يجيء أبداً.
إن أية حركة سياسية، لكي تحافظ على حيويتها، عليها أن تراجع مسيرتها، وتنقد ذاتها لكي تتخلّص من أدران الماضي، وتتجدّد، بغضّ النظر عمّا اقترفته من أخطاء وخطايا، وما سجّلته من مكاسب وانتصارات. وبغضّ النظر، أيضاً، عمّا يحيق بها من عوائق، أو ما يحيط بها من أزمات. والأمر لا يختلف بالنسبة للبعثيين، فقد كانت تجربة الحكم بالنسبة إليهم مثيرة وحافلة بالتحديات، بقدر ما كانت تجربة مريرة وقاسية، ليس على المواطن العادي فحسب، إنما حتى على البعثيين أنفسهم الذين كانوا يرون الشرخ الكبير بين منطلقات الحزب النظرية وما آل اليه حكم الحزب من مزالق وخطايا، ساهمت، إلى حدٍ كبير، في توفير فرص العدوان على العراق، بحسب اعتراف البعثيين أنفسهم.
وقد أعطت الأوضاع الكارثية التي سادت العراق بعد الاحتلال، المبرّر لتأجيل عملية المراجعة، بدعوى عدم إثارة ما يُضعف الجهد المقاوم والمناهض للاحتلال، لكن المبرّر لم يعد مقنعاً، بعد مرور أحد عشر عاماً على هزيمة الحزب، إذ كان يمكن أن تكون الحال أفضل، لو جرت المراجعة قبل "خراب البصرة"، وقبل أن يشمل الخراب كل مرفق وميدان في العراق.
كان من الممكن ألا يصل الحال إلى هذه الدرجة من السوء، لو امتلك قياديو الصف الأول في الحزب الشجاعة ليصارحوا صدام بأخطائه وخطاياه، منذ أقدم على ارتكاب "مجزرة الرفاق" في يوليو/ تموز 1979 بداعي حصول مؤامرة على الحزب والقيادة. في حينها، اختار صدام أن يقيم "دولة المخابرات"، بدلاً من تأسيس نظام ديموقراطي يكفل حرية الوطن والمواطن، فيما اختار رفاقه القياديون الصمت في بعض الأحيان، ومباركة التوجّه في أغلبها!
وكان يمكن أن تكون الأمور أفضل، لو بنى صدام "الدولة القوية"، المتحصنة داخل حدودها المتآلفة مع جيرانها، المنسجمة مع محيطها الإقليمي، والحذرة من تقلّبات محيطها الدولي! والأمور كان يمكن أن تكون أفضل، لو تريّث صدام قبل الدخول في حربٍ مع إيران، ظنّها نزهة، لن تستغرق سوى بضعة أيام، فإذا بها تمتد ثماني سنوات عجاف، استهلكت الكثير من الحرث والنسل في البلدين. والأمور كان يمكن أن تكون أفضل، لو لم يقرّر صدام، في لحظة طيش وتهوّر، غزو جيرانه الكويتيين، ليدقّ المسمار الأخير في نعش "الإعلان القومي" الذي كان قد أعلنه هو نفسه. والأمور كان يمكن أن تكون أفضل، لو التقى صدام وفد المعارضة العراقية الوطنية الذي قدِم إلى بغداد، قبل شهور من العدوان، طارحاً مشروعه لحماية البلاد، لكن صدام، في موقف مكابر، رفض الاجتماع بالوفد، وأوكل الأمر لنائبه عزت إبراهيم الذي أبلغ الوفد أن "حزب البعث هو الذي فجّر الثورة، وأنه وحده قادر على حمايتها"، وبإمكان المعارضين الوطنيين أن يعودوا إلى البلاد لإصدار جريدة". والأمور كان يمكن أن تكون أفضل، لو أنصت صدام لنصيحة طارق عزيز الأخيرة، في أن الأميركيين قادمون، هذه المرة، لغزو البلاد واحتلالها، لكن صدام صمّ أذنيه عنها، والتفت ليسمع أصوات آخرين في أنهم قادرون على مواجهة الغزو وصدّقهم. والأمور كان يمكن أن تكون أفضل، لو رفع رفاق صدام أصواتهم، طالبين تصحيح المسيرة، قبل أن يستفحل الداء ويعزّ الدواء، لكنهم، في كل مرة، كانوا يلوذون بالصمت، فيخسر حزبهم جراء ذلك، ويخسر بلدهم أيضاً.
وكان أن حل البلاء الأصفر، ودخل الأميركيون بغداد، وتفرّق الرفاق الذين جمعتهم التجربة المرّة. استوطن بعضهم صنعاء أو الدوحة أو دمشق أو عمان، ليكونوا على مقربةٍ، فيما آخرون هاجروا بعيداً، لينكفئوا على أنفسهم، يمارسون جَلْد الذات والحنين إلى بلادٍ أضاعتهم وأضاعوها.
والحزب، الذي كان يوماً ملء السمع والبصر، أصبح أحزاباً تتبادل اللوم والعتاب والاتهامات، وكل منها ينحي باللائمة على الآخر، وفي لحظة صحوٍ، تنادى بعضهم لمراجعة التجربة، وحمّلوا القيادة مسؤولية الحال التي وصل إليها الحزب والبلد أيضاً، ودعوا إلى أن يترجّل "الحرس القديم"، عسى أن يساهم ذلك في تجديد الحزب. أوصى عضو القيادة القطرية، سعدون حمّادي، رفاقه، قبل رحيله، بأن "يلملموا صفوفهم، ويناقشوا مرحلتنا (مرحلة وجود الحزب في السلطة) بكل إيجابياتها وسلبياتها، ويتم انتخاب قيادة جديدة، ليس فيها مَن كان ضمن قيادتنا أثناء فترة الاحتلال، والاعتذار للشعب عن أي تصرّف خاطئ". "الحرس القديم" أخذته العزّة بالإثم، ورفض كل دعوات المراجعة والتجديد، حتى التي صدرت من بعض قياديي الصف الأول.
ماذا لو تعلّم البعثيون من تجربة الأحزاب الشيوعية في أوروبا الشرقية التي عانت من مرارة السقوط، وفي فترة قياسية، رجعت إلى نفسها، وراجعت تجربتها، واستطاعت أن تلحق بالركب، وأن تحجز لها موقعاً على الخارطة السياسية في بلادها، من دون أن تشعر بالنقص، أو أن تواصل جلد الذات، أو أن يغلبها الحنين إلى مجدٍ زائل لم يعد ينفعها في شيء؟ ماذا لو عملوا على إطلاق المراجعة "الشاملة والعميقة" التي وعدوا بها اليوم، وليس غداً، وأعادوا تموضعهم، وأخذوا أنفسهم إلى المكان الصحيح، لكي يجترحوا الموقف الوطني الصحيح؟
على أية حال، الاعتراف بحد ذاته، وإن جاء متأخراً، يظلّ حدثاً استثنائياً وفريداً، لكن تأجيل المراجعة "الشاملة والعميقة" إلى مؤتمرٍ قطري، مؤجلٍ هو الآخر، يعني أن الانتظار قد يطول، وأن "غودو" قد لا يجيء أبداً.