نخبة الضد ... ونخبة الغد
سبق لنا حديثٌ عن النخبة المحنّطة، والنخبة المنحطّة؛ ذلك في لحظاتٍ، بدت فيها علية القوم وصفوة السياسيين وقادة الرأي العام في مصر، أشبه بالمومياوات المتيبسة، والأشكال المتكلسة التي تعوق حالة ثورية، عمادها الشباب، ووقودها شعب تائق للحرية والكرامة، ثم ما انكشف به حالهم، أكثر من مناكفات صبيانية، ومكايدات رخيصة، ومساجلات عبيطة، قامرت بالوطن ومستقبله، والثورة وآمالها وآلامها.
لكن الانقلاب العسكري الغاشم، على قدر ما فيه من ويلاتٍ وسلبياتٍ وكوارث، يُحسب له أنه كشف هذه النكبة المسماة بالنخبة، أكثر وأكثر. فكما أبان لنا عن طبيعة الدولة التي يتباكى عليها الكاذبون، والمنافقون، والفشارون، وأنها انتقلت من دولة الشبه، أو دولة مؤسسات "كأن" إلى دولة الضدّ.. ها هو الانقلاب البشع ذاته يعرّي هذه النكبة المترهلة، ويكشف أنها "نخبة الضد".
نخبة الناس الحقيقية هي من يفرزهم الناس إفرازاً طبيعياً، أو ينتخبونهم انتخاباً حراً نزيهاً شريفاً، فالنخبة من الانتخاب، والصفوة من الاصطفاء، والعلية من التعلية، لا من التعالي. النخبة الحقة هي من تكون من الناس، لا متغربة عنهم، وللناس لا ضدهم، ومع الناس لا عليهم. النخبة الحقة تمثل الناس في ثقافتهم العامة، وفضائل أخلاقهم، وطبائع عمرانهم، لا تنفصل عنهم، ولا تترفع عنهم، ولا تتحدث نيابةً عنهم من أبراج عاجية، ومن وراء شاشاتٍ كاذبة خاطئة، مضللة مخادعة. النخبة الحقة هي التي تمثل مصالح الناس والوطن، لا مصالح أنفسها الأنانية، ولا مصالح سادتها وكبرائها من الجبابرة والفراعنة، ولا مصالح مموليها من أهل الطمع والجشع، والسلب والنهب، ولا مصالح أعداء الأمة والوطن؛ عمالة في صورة وكالة، وخيانة في ثوب الأمانة.
النخبة الحقة هي نخبة الموقف التي تقول الحق، ولو كان مرّاً، وتقول كلمة الحق في وجه ذي السلطان الجائر، لا تخاف في الله تعالى والحق لومة لائم، ولا تداهن ليدهنوا، ولا تكذب أهلها (إن الرائد لا يكذب أهله).. لا تذيع الخوف، ولا تتلاعب بأمن الناس وأمانهم، ولا تقدم تحليلات الزيف، وتفسيرات الزور، ولا تموه، ولا تلبس على الناس أمر دينهم ودنياهم. النخبة الحقة هي النخبة القدوة والأسوة والمثل الأعلى الذي تحتذيه الأجيال، وتتأسى به الجموع، وتسير وراءها واثقة مطمئنة.
ولكن، هيهات لنا في حقبة الانقلاب بمثل هذه النخبة الحقة، ولا بأشباه النخب. نحن مبتلون بنكبةٍ ونكسةٍ ووكسةٍ ثقيلة، اسمها النخبة المصرية والعربية التي صارت، كما قال وليد نويهض (النخبة ضد الأهل). إنها ولا بد: نخبة الضد: ضد الناس، وضد الوطن، وضد الشباب، وضد الثورة، وضد المستقبل، وضد الحرية والكرامة والعدالة والإنسانية والحقوق والدستور، ولا ثابت مبدئياً، أو معنى أخلاقياً، أو قيمة فاضلة.. إن الانقلاب، باتساع مجاله، أورثنا انقلاباً في النخبة، ولم يلد إلا نخبة انقلاب سافرة في فجورها، وفاجرة في سفورها.
نخبة الانقلاب، نخبة الضد لا تمثل الناس، إنما تمثل عليهم، وتمثل بهم، كالجثث في المشرحة، وتمثل فيهم كل قبيح وبغيض. لا تمثل رؤى الناس، إنما تفرض عليهم رؤاها التي إما هي قمة في الغباء، أو مكر وكيد من الخبثاء، أو "مافيش" صحراء وخواء. نخبة تمثل الضد، تهدي الناس القيد باسم الحرية، والجور باسم العدالة، والديكتاتورية في صورة الصناديق واللجان الخاوية، وتسمّيها أزهى عصور الديمقراطية. تقدم لهم الحكم العسكري باسم الدستور والمدني، تلفق لهم الدستور، وهي تصرخ "الدستور أولاً"، تعمق الشقاق، وهي تتحدث عن عصر التوافق والاتفاق.
نخبة الضد تضل ولا تهدي، تغوي ولا ترشد، تهدم ولا تبني، تعمي ولا تبصر، تخدع، ولا تصدق. مثالها السامري مع فرعون: كلاهما أضلّ قومه، وما هدى. الأول استعبدهم لعجلٍ لا يسمع ولا يبصر، ولا يرد عليهم بشيء، والثاني استعبدهم لنفسه قائلاً: ما علمت لكم من إله غيري، وما أريكم إلا ما أرى، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد.
نكبتنا المسماة نخبتنا ضربت الثورة، وأزاحت الشباب لتحتفظ بصدارة مشهدٍ، لم يزده وجودها إلا قبحاً وضياعاً، ثم حاربت الديمقراطية، لتبيع للناس ديكتاتورية عسكرية شمطاء، وقاتلت ضد المدنية، باسم المدنية، لتحل قومها دار البوار: قتلى، ومصابين، ومعتقلين ومغتصَبات.
تكلمت بأقبح ما في أفواهها، وأبانت عن أبغض ما في صدورها، حيث كان يجب أن تصمت، وإلى الأبد، ثم صمتت صمت القبور، وظهرت بمظهر الشائخ غير القادر على الكلام، حين وجب الصراخ والعويل.. ألا إنها فتنة لهم.. إلا إنهم الفتنة بعينها.
نخبة الضد لم تقم بفريضة التربية؛ تنشئة أجيال جديدة: وطنية، حرة، كريمة عزيزة، نخبة جديدة مثقفة، ذات فكر ورؤية، ذات قدرات ومهارات، سياسية واجتماعية، وقيادية. لأنها نخبة أنانية، ادعت التصدر للتحديات، نيابة عن الوطن والمواطنين، وإنما هي طغمة متلصصة إلى أضواء وشاشات، ومراكز ومناصب وعلاقات، وأموال وأرصدة وحيازات، نخبة لا تشبع ولا تقنع، ولا تبصر ولا تسمع.
نخبة الضد لا تمانع أن تحتل الأوطان، ولا أن تتسول لقمة عيشها وتهان، ولا أن تبقى في ذيل الأمم، وفي أسفل مكان. ادعت التعليم، وبلادها في آخر الدول التي تعلم، والأمية تفترس القطاع الأعرض من المصريين، وادعت التنور بقيم الحرية وحقوق الإنسان، ثم كانت أول من رفسها وداسها ودنسها. ادعت الدفاع عن الفقراء والمهمشين، وهي أول من تبرر سياسات مص دمائهم والتضييق عليهم، وإفساد معايشهم، بلا أي مبالاة.
نخبة الضد تحتقر الشعب وتزدريه؛ تراه قاصراً لا يستحق أن يدلي برأيه وصوته، فإذا فعل سخرت من اختياره؛ لأنه لا يفهم، أو يسهل خداعه والتلاعب به، وشراء ذمته بسلعة غذائية. تحتقر الشعب، فتتحدث عنه حديث السائح الغريب، أو عابر السبيل، وتحتكر الحديث عنه، بينما تكرس سياسات قمعه وتكميمه وإخراسه، تترفع عن التعايش معه، ولا تتصوره إلا حرافيش همج فوضويين، وتحادثه بطرق كلها عن بعد: في صحيفة، أو كتاب، أو عبر شاشة، أو عبر الأثير. لا تشعر بمعاناة الناس، إلا كلاماً، وشعارات، لا تسمن ولا تغني من جوع ولا من عري ولا من مرض ولا من استغلال ولا من إذلال.
نخبة الضد هي التي صنعت ثورة الضد، ومهدت للثورة المضادة، وهللت وبررت لها من كل سبيل. أعماها الحقد أن يسبقها الشباب، أو أن تصعد قوى جديدة، لم يكن لها مكان من قبل، أو أن يختار الشعب غيرهم، فانقلبوا على كل شيء: انقلبوا على المبادئ وتلاعبوا بها، وانقلبوا على القيم، فسخروا منها وامتهنوها، وانقلبوا على الثورة، وعلى الوحدة الوطنية والجماعة الوطنية، وعلى الدولة المصرية الحقيقية، انقلبوا على الديمقراطية التي طالما ادعوا أنهم أنصارها ومنظروها، انقلبوا على حقوق الإنسان التي عاشوا حياتهم يأكلون من ورائها ويشربون.
ليست نخبة؛ إنما هي النكبة، والنهبة، والنصبة، والندبة، والشايبة والنايبة والعايبة، كما يقول عامة أهلنا.
نخبة الضد زائلة ولابد، ولكن واجب الوقت هو أن نقف وقفة ضد هذه النخبة المضادة، ودولتها المضادة وثورتها المضادة.. لن تتقدم الثورة المصرية، وتُقال من عثرتها، ما لم ننتزع من هذه النخبة انتسابها للثورة، ما لم نقذف بهم بعيداً عن طريقها، ما لم نحاكمهم على جرائمهم وجرائرهم التي ليس أولها إصرارهم على احتلال مقاعد النخبة، وليس آخرها تضييعهم الثورة والمدنية والحلم الذي عاشه الشباب والشعب من ورائهم.
نخبة الغد هي البديل الواجب الضروري الحال اليوم عن نخبة الضد.
نخبة الغد: أمل ووعد، وفاء بعهد، نشاط وجد، همة تحيي أمة، صمود في المحنة، فداء وتضحية، لا جبن وتورية. نخبة الغد إبداع وتطوير، ثورة وتغيير، حرية وتحرير، شعلة تنير، شباب يقرر المسير والمصير.
نخبة الغد من الناس وللناس، لا تكذب ولا تغدر ولا تخادع، لا تسرق، ولا تنهب، ولا تستحل أموال الفقراء، لا تداهن ولا تنافق ولا تصافق، لا تجبن، ولا تهرب، ولا تتوارى كالثعالب، لا تفرق جمع الوطن، ولا تستبعد أياً من أبنائه، ولا تحتكر لنفسها الوطنية، ولا المدنية، ولا المجال العام.. تناضل من أجل الجميع، وتضحّي من أجل حرية من تختلف معه وكرامته. تجيد صناعة الائتلاف بناء الاصطفاف على أرضية التنوع والتعدد والاختلاف، وتحسن رؤية المواقف، وتمييز الحقيقي من الزائف، وتبين العدو من الصديق، والمنافس من المعادي.
نخبة الغد تتشكل، اليوم، في أتون المحنة، تشكل وعيها على بشاعة أعداء الوطن في الداخل والخارج، تبني معمار أفكارها عن الثورة ومتطلباتها وقواها وإمكاناتها، وعن الثورة المضادة وشبكة مصالحها وصلاتها الخفية والظاهرة، تتعرف جيداً مواطن تهديد المستقبل، ومواقع الخطر على العيش في هذا الوطن، تترسم سبيلاً جديداً لا يستوعبه الانقلابيون، ولا يفهمه الشائخون المحنّطون المنحطّون.
نخبة الغد تأخذ بيد الناس لإعادة بناء وطن يسع الجميع، لا يعرف التعذيب، ولا التنكيل ولا الترويع، وطن يوسد فيه الأمر إلى أهله، ويجعل الشخص المناسب فيه في المكان المناسب، لا يعتبر الفساد فيه قدراً مقدوراً، ولا الاستبداد حتماً محتوماً، ولا التخلف فيه صديقاً لصيقاً، ولا التبعية والذيلية فيه ميراثاً وفرضاً مفروضاً.
إنها خمائر العزة التي تتشكل وتنمو في قلب الوطن وأطرافه، وفي عروق الأمة وأنسجتها... شباب من كل التيارات، من كل الاتجاهات، من كل الطبقات، من كل المناطق؛ الريف والحضر، القرى والمدن، السواحل والصحراء.. عزم على بناء المستقبل، وعلى إزاحة كل من يقف ضد المستقبل؛ وعلى رأسها: دولة الضد، ونخبة الضد، وثورة الضد: الثورة المضادة.