صور غزّة في عيون مشاهديها
في آخر رسالة له، قبل أن ينتحر عن عمر 33 عاماً، كتب المصوّر الصحفي الجنوب إفريقي، كيفن كارتر: "صور المجازر والجثث والغضب والألم والأطفال الجائعين والمجروحين لم تغادرني، ولم أستطع الفرار منها. ألم الحياة فاق بهجتها إلى حدّ أنّ البهجة انعدمت". ونال كيفن شهرته، بعد أن فاز بجائزة بوليتزر الأميركية على صورة التقطها لطفلة سودانية في مجاعة 1993، وهي تزحف للوصول إلى مخيّم الإغاثة في جنوب السودان، ويترصدّها نسرٌ، ينتظر موتها.
وعلى الرغم من نيله الجائزة، فإن كيفن ووجه، وقتها، بسيل من الانتقادات، لأنّه وقف يتفرج على الطفلة، حتى وصلت زاحفةً إلى الوضعية المطلوبة التي تسنى له التقاطها. وعلى الرغم من أنّ الطفلة وصلت إلى المخيم سالمة، ولم يصبها النسر المتربص بأذى، إلّا أنّ الانتقادات انحصرت في أنّه كان في وسعه إنقاذ الطفلة، وتوفير الجهد الذي بذلته، وهي ضعيفة وجائعة، وتحتاج إلى العون، أكثر مما تحتاج إلى صورة.
هذه الصورة قتلت مصوّرها، رغماً عن تضامنه مع ضحايا المجاعة، بعكس ما يحدث لهم من خلال الصور للعالم. ونتيجة لذلك، اتخذت وسائل الإعلام العالمية وقتها قراراً بضرورة منع بث، أو نشر، الصور الدموية، أو العنيفة، بحجة أنّ مثل هذه الصور قد تكون قاتلة للمصوّر أو المشاهدين.
لا ندري ماذا كان سيكتب كيفن، أكثر من عبارته تلك، لو أنّه ما زال على قيد الحياة. وبماذا يمكن أن يعبّر، وهو يلتقط صور الدمار في غزة، يختلط فيها ركام المباني التي استحالت إلى خراب، مع بارود المدافع وأنهار الدماء التي ينشل منها كل غادٍ إلى خبر ورائح.
وهل ستسعفه الكلمات التى رثى بها حال الطفلة وحاله، إذ تحولت الكارثة من كارثة مشتركةٍ بين الطبيعة والإنسان في شكل المجاعة، إلى أبشع صور الحرب و"القصف الإستراتيجي" للمدارس والمستشفيات والمساجد والمدارس. الواقع أنّه ليست الصور وحدها ما ستخلّد هذه الأحداث المأسوية، وإنما التسميات المريعة للعمليات الهجومية، مثل عملية "الجرف الصامد"، إحدى تطبيقات مفهوم "الحرب الشاملة" التي تتبناها إسرائيل. وهذه العملية، إن خلدت في الأذهان، لن تكون، بسبب كثافة عدد الضحايا فحسب، وإنّما لنيتها تحطيم معنويات من تبقى من الشعب الفلسطيني. إنّ أمر الحرب مرهون دائماً بالقدرة على دحر الأمل في عيون الحالمين بالسلام، لأنّه لو لم يُقتل الأمل فسيكون الخطوة الأولى في طريق السلام. عندها، ستكون للحياة قيمة، يستحق الصابرون الحصول عليها بأي ثمن. ولكن الاتجاه الأشدّ مضاضة، وهو ما قد يخيّب رجاء الحسابات الإسرائيلية، فهو أنّها لم تترك وراءها ما يمكن أن يعوّل عليه الشعب الفلسطيني، أو يخسره. وبالتالي، تشتدّ مقاومته، ليس أملاً في الحياة، ولكن في الموت بشرف.
لا لوم على كيفن، لأنه استحال إلى ضحية من نوع آخر، لكن اللوم على من تصل إليه هذه الصور، تعكس مآسي الضحايا ومعاناة مصوريها، ولا تحرّك فيه ساكناً، إلّا بمستوى مساعداتٍ، لا تعيد من راح، لكنها توفّر يوماً أو يومين إضافيين، لتعمل فيها آلة الحرب الإسرائيلية من دون هوادة. ما تقدّمه الصورة، على الرغم من قسوتها، هو جزء يسير من المعلومة، وما يقدّمه العالم لأهل غزة هو القليل من التضامن الذي لا يوقف حشود الضحايا في مسارات الموت تحت نيران القصف.
لا مهرب من واجهة الأخبار الدموية المصوّرة، إلّا إلى واجهات أخرى، أشد عنفاً. كم مرة تلك التي نحدث فيها أنفسنا، أنّا متنا بسببها أكثر من الضحايا أنفسهم. قد تكون لدينا القدرة على العمل في ظروف غاية في الصعوبة، أو أن يكون أحدنا مجبراً على تحمّل آلام الحياة ومصاعبها وعذاباتها، والتعايش مع أوضاع في غاية القسوة، لمجرد أن يظلّ حيّاً. ولكن، أن تكون الأخبار على شكل متوالية من العذابات والمذابح المتواصلة بمتابعاتٍ لا تنتهي فهذا يفوق التصور.
ومع اختلاف القراءات لجدوى الإحساس بالصور المأسوية، لا يستطيع أحد أن يجزم بأنّ المُشاهد فقد الإحساس بتكرارها. ولكن، ما هو أقرب إلى الصحة أنّه يتجدد موته بمشاهدتها آلاف المرات، فليس سوى ضغطة زر هي التي تفصل ضحايا الموت عن مشاهديهم.
ما أشدّ آلام صور هذه المجازر، وما أصلبنا في تهيؤنا لمشاهدة الكثير والعنيف منها. صحيح أننا تعبنا من الأخبار، ومما تحمله من فظائع، كل منّا يصرخ بأعلى صوته ألم يئن لهذا الدفق المجنون من الأخبار والصور أن يتوقف؟ ولكن لا إجابة.
ربما نكون قد نسينا أنّ أهل غزة هم الذين يدركون أكثر من غيرهم حكمة كروزوس، آخر ملوك ليديا: "في السلام الأبناء يدفنون آباءهم، وفي الحرب، الآباء يدفنون أبناءهم". وفي واقع كهذا، لا يمكن أن تهجرهم الصور، وإنما تكبّل المُشاهد مناظر القتل الجماعي للمدنيين، والتي لا يمكن تبريرها. صور الأطفال والضحايا المدنيين لا تعكسها الأجهزة الإعلامية المختلفة، لكي تمثّل تهديداً وجودياً لإسرائيل، لكنها رسالة علها تنثر في عيون العالم رماد من أحرقتهم فجيعة الحرب.